بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة على خير خلقه محمد، وآله الطيبين.
قد سألتم أيدكم الله، املاء مختصر في أصول الفقه، يحيط بجميع أبوابه على وجه الاختصار والايجاز (1)، على ما تقتضيه مذاهبنا، وتوجبه أصولنا فان من صنف في هذا الباب سلك كل قوم منهم المسالك التي اقتضاها (2) أصولهم، ولم يصنف أحد (3) من أصحابنا في هذا المعنى، إلا ما ذكره شيخنا أبو عبد الله رحمه الله (4) في المختصر الذي له في أصول
Shafi 3
الفقه (1) ولم يستقصيه، وشذ منه أشياء يحتاج إلي استدراكها، وتحريرات غير ما حررها فإن (2) سيدنا الاجل المرتضى (3) قدس الله روحه (4) وإن كثر في أماليه، وما يقر عليه، شرح ذلك، فلم يصنف في هذا المعنى شيئا يرجع إليه، ويجعل ظهرا يستند إليه.
وقلتم: إن هذا فن من العلم، لابد من شدة الاهتمام به، لان] الشريعة كلها مبنية عليه ولا يتم العلم بشئ منها من دون إحكام أصولها، ومن لم يحكم أصولها فإنما يكون حاكيا ومقلدا، ولا يكون عالما وهذا منزلة يرغب أهل الفضل عنها.
وأنا مجيبكم إلى ما سألتم عنه، مستعينا بالله وحوله وقوته وأسأله أن يعني (5) على ما يقرب من ثوابه ويبعد من عقابه.
وأقدم (6) في أول الكتاب فصلا يتضمن ماهية أصول الفقه وانقسامها وكيفية ترتيب أبوابها وتعلق بعضها ببعض، حتى أن الناظر إذا نظر فيه وقف على الغرض المقصود بالكتاب وتبين من أوله إلى آخره (7). والله تعالى الموفق للصواب.
Shafi 4
الباب الأول
Shafi 5
فصل NoteV01P007N01 (في ماهية أصول الفقه وانقسامها وكيفية ترتيب أبوابها) أصول الفقه هي أدلة الفقه، وإذا (1) تكلمنا في هذه الأدلة فقد نتكلم فيما تقتضيه من إيجاب وندب وإباحة وغير ذلك من الأقسام على طريق الجملة وليس يلزم على ذلك (2) أن تكون الأدلة الموصلة إلى فروع الفقه الكلام فيها كلاما في أصول الفقه (3) لان هذه الأدلة (6) أدلة على تعيين المسائل والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل وليس المراد بذلك، مالا يتم العلم بالفقه الا معه لأنه لو كان كذلك لزم أن يكون الكلام في حدوث الأجسام ، وإثبات الصانع، والعلم بصفاته، وايجاب عدله، وتثبيت الرسالة، وتصحيح النبوة، كلاما في أصول الفقه، لان العلم به لا يتم من دون العلم بجميع ذلك، وذلك لا يقوله أحد، فعلم بهذه الجملة، ان المراد بهذه العبارة ما قلناه.
والأصل في هذه الأصول الخطاب، أو ما كان طريقا إلى اثبات الخطاب، أو ما كان الخطاب طريقا إليه.
فأما الخطاب فهو الكلام الواقع على بعض الوجوه وليس كل كلام خطابا،
Shafi 7
وكل خطاب كلام.
والخطاب يفتقر في كونه كذلك إلى إرادة المخاطب، لكونه خطابا لمن هو خطاب له ومتوجه إليه، لأنه قد يوافق الخطاب في جميع صفاته من وجود وحدوث، وصيغة، وترتيب ما ليس بخطاب، فلا بد من أمر زائد، وهو ما قلناه.
والكلام في الخطاب، كلام في بيان أدلة الكتاب، والسنة وذلك ينقسم خمسة أقسام:
أحدها: الكلام في الأوامر والنواهي.
والثاني: الكلام في العموم والخصوص.
والثالث: الكلام في المطلق والمقيد.
والرابع: الكلام في المجمل والمبين.
والخامس: الكلام في الناسخ والمنسوخ.
أما ما هو طريق إلى اثبات الخطاب من هذه الطرق، فهو قسم واحد وهو الكلام في الاخبار، وبيان أقسامها.
وأما ما الخطاب طريق إليه، فهو أيضا قسم واحد، وهو الكلام في أحكام الافعال.
وألحق قوم بهذا القسم الكلام في الاجماع، والقياس، والاجتهاد، وصفة المفتى والمستفتي، والحظر، والإباحة.
وذلك غير صحيح على قاعدة مذاهبنا، لان الاجماع عندنا إذا اعتبرناه، من حيث كان فيه معصوم، لا يجوز عليه الخطأ، ولا يخلو الزمان منه، وطريق ذلك العقل دون السمع، فهو خارج عن هذا الباب.
وأما القياس والاجتهاد (1) فعندنا انهما ليسا بدليلين، بل محظور استعمالهما،
Shafi 8
ونحن نبين ذلك فيما بعد، ونبين أيضا ما عندنا في صفة المفتى والمستفتي.
وأما الكلام في الحظر والإباحة، فعندنا وعند أكثر من خالفنا طريقه العقل أيضا (1)، فهو - أيضا - خارج من هذا الباب.
والأولى في تقديم هذه الأصول الكلام في الاخبار، وبيان أحكامها، وكيفية
Shafi 10
أقسامها، لأنها الطريق إلى اثبات الخطاب. ثم الكلام في أقسام الخطاب. ثم الكلام في الافعال لأنها متأخرة عن العلم بالخطاب. ثم الكلام في تتبع ما عده المخالف أصلا وليس منه.
ولما كان المبتغى (1) بهذه الأصول العلم، فلا بد من أن نبين فصلا يتضمن بيان حقيقته، و (2) الفرق بينه وبين الظن وغيره، وما يصح من ذلك أن يكون مطلوبا، وما لا يصح.
ولا بد أيضا من بيان ما لا يتم العلم الا به: من حقيقة النظر، وشرايط الناظر، وما يجب أن يكون عليه، وبيان معنى الدلالة، وسائر متصرفاته، واختلاف العبارة عنه.
ولما كان الأصل في هذا الباب الخطاب، وكان ذلك كلاما فلا بد من بيان فصل يتضمن معنى الكلام، وبيان الحقيقة منه والمجاز، وانقسام أنواعه.
ولما كان الكلام صادرا من متكلم، فلا بد من بيان من يصح الاستدلال بكلامه ومن لا يصح، ويدخل في ذلك الكلام فيما يجب أن يعرف من صفات الله تعالى وما لا يجب، وصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصفات الأئمة القائمين مقامه الذين يجرى قولهم مجرى قوله عليه السلام.
ونحن نبين جميع ذلك في أبوابه على غاية من الاختصار حسب ما تقتضيه الحاجة، ونقتصر (3) فيما نذكره على الإشارة إلى ذكر ما ينبغي أن يعتمد عليه، ويحصل العلم به دون أن يقرن (4) ذلك بالأدلة المفضية إليه، لان لشرح ذلك موضعا غير هذا، والمطلوب من هذا الكتاب بيان ما يختصه من تصحيح أصول الفقه التي ذكرناها، وبيان الصحيح منها والفاسد، إن شاء الله تعالى.
Shafi 11
فصل NoteV01P012N02 (في بيان حقيقة العلم، وأقسامه، ومعنى الدلالة، وما يتصرف منها) حد العلم ما اقتضى سكون النفس.
وهذا الحد أولى من قول من قال: (انه اعتقاد للشئ على ما هو به، مع سكون النفس) لان الذي يبين به العلم من غيره من الأجناس هو سكون النفس، دون كونه اعتقادا، لان الجهل أيضا اعتقاد، وكذلك التقليد.
ولا يبين أيضا بقولنا: (للشئ على ما هو به) لأنه يشاركه فيه التقليد أيضا، إذا كان معتقده على ما هو به. والذي يبين به هو سكون النفس، فينبغي أن نقتصر (1) عليه، وليس من حيث إن ما اقتضى سكون النفس لا يكون الا اعتقادا للشئ على ما هو به، ينبغي أن يذكر في الحد.
كما أنه لا بد من أن يكون عرضا، وموجودا، ومحدثا، وحالا في المحل، ولا يجب ذكر ذلك في الحد من حيث لا يبين به، فكذلك ما قلناه.
ولا يجوز أن يحد العلم بأنه المعرفة، لان المعرفة هي العلم بعينه، ولا (2) يجوز
Shafi 12
أن يحد الشئ بنفسه.
ولا يجوز أن يحد بأنه اثبات، لان الاثبات في اللغة هو الايجاب (1)، ولأجل ذلك يقولون: (أثبت السهم في القرطاس) أي: أوجبته (2) فيه. ويعبر أيضا في الخبر عن وجوب الشئ كما يقال في المجبرة (3) انهم مثبتة.
ثم إن ذلك ينتقض بالتقليد، لأنه أيضا إثبات للشئ على ما هو به، ان أريد بهذه اللفظة الاعتقاد، وان أريد بها العلم فقد حد الشئ بنفسه.
والعلوم على ضربين: ضروري، ومكتسب.
فحد الضروري ما كان من فعل غير العالم به، على وجه لا يمكنه دفعه عن نفسه بشك أو شبهة.
وهذا الحد أولى مما قاله بعضهم من أنه: (ما لا يمكن العالم به دفعه عن نفسه بشك أو شبهة إذا انفرد) (4) * لان ذلك تحرز ممن (5) اعتقد بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان زيدا في الدار، ثم شاهده، فإنه لا يمكنه أن يدفع ذلك عن نفسه، و (6) مع هذا فهو اكتساب.
Shafi 13
وهذا لا يصح عندنا، لان العلم بالبلدان، والوقائع، وما جرى مجراهما، هذا الحد موجود فيه، وعند كثير من أصحابنا مكتسب قطعا، وعند بعضهم هو على الوقف، فلا يصح ذلك على الوجهين معا.
على أن ذلك انما يصح على مذهب من يقول ببقاء العلوم، فأما من قال إن العلم لا يبقى فلا معنى لهذا الكلام عنده، لأنه لا يبقى وقتين، فيصح طرو الشبهة في ذلك أو الشك، فيعتبر صحة انتفائه بهما أولا، وانما يتجدد حالا بعد حال، اللهم الا أن يراد بذلك انه لا يصح أن يمنع منه ابتداءا، فان أريد به ذلك فذلك يوجد في العلم الاستدلالي الذي لم يقارنه الضروري (1) *، لأنه في حال حصول العلم أيضا لا يمكنه دفعه عن نفسه، وإن لم يكن ضروريا. وانما يصح أن يدخل الشبهة أو الشك عليه فيمنعا من وجود مثله في الثاني، أو يدخلا في طريقه قبل حصوله، فيمنعا من توليده، فأما حال حصوله فلا يصح على حال، فعلم بذلك ان الصحيح ما قلناه.
اللهم [الا] أن يراد بذلك ما أمكن ذلك فيه على وجه، فان أريد ذلك كان صحيحا على مذهبه، ولا يصح ذلك على مذهبنا، لما قلناه من العلم الحاصل بالبلدان والوقايع.
والعلوم الضرورية على ضربين:
ضرب منهما: يحصل في العاقل ابتداءا (2) *، وهو مثل العلم بان الموجود لا يخلو من أن يكون قديما أو غير قديم، وان الجسم الواحد لا يخلو من أن يكون في مكان أو لا يكون فيه، وان الذات لا بد من أن يكون على صفة أو لا يكون عليها، وتعلق
Shafi 14
الكتابة بالكاتب، والبناء بالباني، وما يجرى مجرى ذلك مما يعد (1) في كمال العقل، وهي كثيرة.
والضرب الثاني: ما يقف على شرط، وهو العلم بالمدركات، لان العلم بها ضروري، الا أنه واقف على شرط، وهو الادراك مع ارتفاع اللبس، وهذا العلم واجب حصوله مع الشرط الذي ذكرناه في العاقل، لأنه مما يدخل به في كونه كامل العقل، ومتى لم يحصل، أخل ذلك بكمال عقله.
وزاد قوم في هذا القسم الذي يقف على شرط - وان لم يكن ذلك واجبا - العلم بالصنائع عند الممارسة، والعلم بالحفظ عند الدرس.
ولنا في ذلك نظر، ليس هذا موضع الكلام فيه.
وذكروا فيه أيضا العلم بمخبر الأخبار المتواترة ونحن نبين ما عندنا فيها (2) عند الكلام في الاخبار إن شاء الله تعالى.
وأما العلم المكتسب: فحده أن يكون فعل من العالم به، وهذا الحد أولى من حد من قال إنه: (ما أمكن العالم به دفعه عن نفسه لشبهة في دليله، أو طريقه إذا انفرد)، لان ذلك لا يصح على مذهبنا، على ما قلناه من العلم باخبار البلدان والوقايع.
والعلم المكتسب على ضربين:
أحدهما: لا يقع إلا متولدا عن نظر في دليل.
والاخر يفعله العالم في نفسه ابتداءا.
فالقسم الأول على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن ينظر في شئ فيحصل له العلم بغيره، نحو نظرنا في الحوادث لنعلم ان لها محدثا، وهذا الوجه يختص العقليات، لأنها الطريق إلى اثبات ذوات
Shafi 15
الأشياء، دون الشرعيات التي هي طريق إلى اثبات أحكامها.
وثانيها: أن ينظر في حكم لذات، فيحصل له العلم بصفة لها، وذلك نحو نظرنا في صحة الفعل من زيد، فيحصل لنا العلم بأنه قادر.
وهذا أولى مما قاله قوم: من أنه ينظر في شئ فيحصل له العلم بغيره، ومثل ذلك بالنظر في فعل زيد، فيحصل له العلم بأنه قادر.
وانما قلنا انه أولى، لان الذي يدل على كونه قادرا، صحة الفعل منه على وجه دون وقوعه، فتمثيله بما قلناه أولى.
والضرب الثالث: أن ينظر في حكم لذات، فيحصل لنا العلم بكيفية صفة لها، نحو نظرنا في جواز العدم على بعض الذوات، فيحصل لنا العلم بأنها محدثة.
وهذا الذي ذكرناه أولى مما قاله قوم من انا ننظر في صفه لذات، فيحصل لنا العلم بصفة أخرى لها، لأن جواز العدم ليس هو صفة، وانما هو حكم من أحكامها، وكونها محدثة ليس أيضا بصفة، وانما هو كيفية في الوجود، فعلم بذلك ان ما قلناه أولى.
ومثاله في الشرعيات: ان ننظر في أن شيئا منها واجب، فيحصل لنا العلم بأن له جهة وجوب.
وأما الضرب الثاني من العلوم المكتسبة التي تحصل من غير نظر: فهو ما يفعله المنتبه من نومه، وقد سبق له النظر في معرفة الله تعالى، فحينئذ يعقل (1) العلم عند ذكره الأدلة.
وطريق النظر في الوجوه الثلاثة، التي قدمنا ذكرها.
وقال قوم: في العلوم التي تقع عن نظر ما يسمى استدلالا، وهو ما يكون المستدل به غير المستدل عليه.
ومنه ما يسمى اكتسابا فقط، واطلاق الاكتساب على جميع ذلك لا خلاف فيه.
Shafi 16
ولا يمتنع أن يسمى أيضا جميع ذلك استدلالا، وانما يختص بتسميته الاكتساب ما يفعله ابتداءا، على ما بيناه عند الانتباه، فان ذلك لا يجوز أن يسمى استدلالا.
ومن حق العلوم المكتسبة أن تتأخر عن الضرورية، لأنها فرع عليها، أو كالفرع.
وأما الظن: فعندنا وان لم يكن أصلا في الشريعة تستند الاحكام إليه (1)، فإنه تقف أحكام كثيرة عليه، نحو تنفيذ الحكم عند الشاهدين، ونحو جهات القبلة، وما يجرى مجراها، فلا بد أن نذكر (2) حده.
وحده: (ما قوى عند الظان كون المظنون على ما ظنه، ويجوز مع ذلك كونه على خلافه).
وهذا أولى مما قاله قوم من أنه: (ما أوجب كون من وجد في قلبه ظنا) (3)، لأنه بهذا (4) لا يبين (5) من غيره، لأنه يحتاج بعد إلى تفسير، فالأولى ما ذكرناه.
وبما قلناه يبين من العلم، لان العالم لا يجوز كون ما علمه على خلافه. وكذلك به يتميز من الجهل، لان الجاهل يتصور نفسه بصورة العالم فلا يجوز خلاف ما اعتقده، وان كان يضطرب عليه حاله فيما (6) يجهله، من حيث لم يكن ساكن النفس، ولأنه اعتقاد لا على ما هو (7) * به، وليس كذلك الظن.
Shafi 17
وأما المقلد (1) *: فان كان يحسن الظن بمن قلده (2) * فهو سيظن أن الامر على ما قلده فيه.
وإذا قلد من لا يجوز عليه الخطأ، فكذلك لا يجوز كون ما قلده فيه على خلاف ما قلده.
وإذا قلد من لا يقوى في ظنه حال ما قلده فيه ففارق الظن، لان ذلك يكون قد سبق إلى اعتقاد لا مزية لكونه على ما اعتقده، أو على خلافه (3)، فقد فارق حال الظن.
وأما الشاك: فهو الخالي من اعتقاد الشئ على ما هو به، ولا على ما هو به مع خطوره بباله، وتجويزه كل واحدة من الصفتين عليه.
وأما الدلالة: فهي ما أمكن الاستدلال بها على ما هي دالة (4) عليه، الا أنها لا تسمى بذلك الا إذا قصد فاعلها الاستدلال.
وانما قلنا ذلك لان ما لا يمكن الاستدلال به، لا يكون دلالة ألا ترى ان طلوع الشمس من مشرقها لا يكون دلالة على النبوة، لأنه لا يمكن ذلك فيها من حيث كان ذلك معتادا ، وطلوعها من مغربها يكون دلالة، لامكان ذلك فيه.
وأثر اللص لا يسمى دلالة، وان أمكن الاستدلال به عليه، من حيث لم يقصد بذلك استدلال (5) عليه، وان سمى ذلك دلالة على بعض الوجوه، فعلى ضرب من
Shafi 18
المجاز، لأنه لو كان حقيقة لوصف بأنه دال وذلك لا يقوله أحد، لأنا نعلم أنه يجتهد في اخفاء أمره، وان لا يعلم به، فكيف يجوز وصفه بأنه دال!، وتستعمل هذه اللفظة في العبارة عن الدلالة، ولهذا يقول أحد الخصمين لصاحبه أعد دلالتك، وانما يريد به كيفية عبارتك عنها، وذلك مجاز.
وانما استعير ذلك من حيث كان السامع لذلك إذا تأمله كان أقرب إلى معرفة المدلول عليه، كما أنه عند النظر في الدلالة كذلك.
وتوصف الشبهة بأنها دلالة مجازا، ولهذا يقال دلالة المخالف.
ومن حق الدلالة أن تكون معلومة للمستدل بها على الوجه الذي تدل على ما تدل عليه، حتى يمكنه الاستدلال بها، ولا فرق بين أن يعلم ذلك ضرورة أو استدلالا.
ولا يجب في الأدلة أن تكون موجودة، ولأجل ذلك صح الاستدلال (1) * بمجئ الشجرة، وحنين الجذع على نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبكلامه على الاحكام، وان كان ذلك كله معدوما.
ولا يجب في الأدلة أن يعلم بدلالة أخرى، ويجوز ذلك فيها الا أنها لا بد أن تنتهي إلى دلالة يعلم صفتها ضرورة، والا أدى إلى ما لا يتناهى من الأدلة.
والدال: هو من فعل الدلالة، لأنه مشتق منها، فجرى في ذلك مجرى الضارب في أنه مشتق من الضرب، وعلى هذا يصح أن يقال: ان الله تعالى دلنا على كذا، فهو دال، وكذلك (2) النبي صلى الله عليه وآله وسلم دلنا على كذا وكذا فهو دال. وقد يتجوز في ذلك فيعبر به عن الدلالة فيقولون: قول الله تعالى، وقول النبي (3) دال على كذا وكذا من الاحكام، وان كان الدال في الحقيقة هو الله تعالى والرسول على ما بيناه،
Shafi 19
وكذلك يتجوز في العبادة عن الدلالة.
والدليل: هو الدال في الأصل قال الشاعر:
إذا الدليل استاف أخلاف الطرق (1) فوصف الدال على الطريق بأنه دليل، من حيث فعل أشياء استدل بها على الموضع المقصود. وقد يتجوز في ذلك فيستعمل في الدلالة، فيقولون في الأجسام انه دليل على خالقها، وبأن القرآن دليل على الاحكام، ولا يمتنع أن يقال أيضا انه حقيقة فيهما (2) *.
والمدلول: هو الذي نصبت له الدلالة ليستدل (3) بها، وهو المكلف، وقد يتجوز بذلك في المدلول عليه فيقولون: هذا مدلول الدلالة، وذلك مجاز.
والمدلول عليه: هو ما يؤدى النظر في الدلالة إلى العلم به.
والمستدل: هو الناظر، ولا يسمى بذلك الا إذا فعل الاستدلال.
والمستدل به: هو الدلالة بعينها، ولا يسمى بذلك قبل الاستدلال بها.
والمستدل عليه: هو المدلول عليه بعينه، غير أنه لا يسمى بذلك قبل حصول الاستدلال.
والنظر ينقسم إلى:
تقليب الجارحة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته.
Shafi 20
وإلى معنى الانتظار.
وإلى معنى التعطف والرحمة.
وإلى معنى الفكر.
والواجب من ذلك هو الفكر (1) *.
والناظر يعلم نفسه ناظرا ضرورة، ويفصل بين هذا الحال وبين سائر صفاته من كونه معتقدا، وظانا، ومريدا، وغير ذلك من الصفات.
ومن شرط الناظر أن يكون عالما بالدليل على الوجه الذي يدل على ما يدل عليه، حتى يصح أن يولد نظره العلم.
ولأجل ذلك نقول: ان من لا يعلم صحة الفعل من زيد لا يعلمه قادرا، ومن لا يعلم وقوع الفعل محكما منه، لا يمكنه أن يستدل على كونه عالما، لما لم يكن عالما بالجهة التي لكونه عليها يدل، ولهذا نقول: ان من لا يعلم أن قوله تعالى: " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " (2) كلام الله، وان الله تعالى لا يجوز عليه القبيح، ولا التعمية والألغاز في الكلام، لا يمكنه الاستدلال به على وجوب الصلاة ولا الزكاة، ولذلك ألزمنا المجبرة أن لا يمكنهم الاستدلال بكلام الله تعالى من حيث جوزوا (3) * عليه القبائح كلها.
وكذلك من لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صادق، وانه لا يجوز عليه الكذب، ولا التعمية، والألغاز في الكلام، لا يصح له أن يستدل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم على شئ من الاحكام.
وهذه العلوم التي ذكرناها، شرط في توليد النظر للعلم، لا في صحة وجوده، لان
Shafi 21
من اعتقد الدليل، أو ظنه على الوجه الذي يدل - وان لم يكن عالما به - جاز منه فعل النظر، وان لم يولد (1) * العلم. وإنما قلنا انه متى لم يكن عالما، لا يولد نظره العلم، لأنه إذا لم يكن عالما بالدليل على الوجه الذي يدل عليه، جوز ألا (2) يكون دليلا (3) على الوجه الذي يدل، فكيف يجوز حصول العلم عن الدليل مع تجويز ما قلناه فيه؟
والنظر في الدليل من الوجه الذي يدل يوجب العلم، لأنه يكثر بكثرته، ويقل بقلته، ولأنه يقع العلم عنده مطابقا لما يطلبه بالدليل، ألا ترى ان من نظر في صحة العقل من زيد لا يصح أن يقع له العلم بان عمرا قادر، وكذلك من نظر في أحكام الفعل، لا يصح أن يقع له العلم بالهندسة وغيرها، فعلم بوجوب هذه المطابقة انه متولد عن (4) النظر.
والنظر لا يولد الجهل (5) * على وجه، لأنه لو ولده لم يخل أن يكون النظر في الدليل يولده، أو النظر في الشبهة. ولا يجوز أن يولد النظر في الدليل الجهل، لأنا قد بينا ان النظر في الدليل يولد العلم، ولا يجوز في شئ أن يولد الشئ وضده. ولو ولد النظر في الشبهة الجهل، لكان يجب كل من نظر فيها أن يولد له الجهل، كما أن كل من نظر في الدليل ولد له العلم. ونحن نعلم انا ننظر في شبه (6) المخالفين فلا يتولد لنا
Shafi 22
الجهل، ولأنه لو كان شئ من النظر يولد الجهل، لأدى إلى قبح كل نظر لان الانسان لا يفرق بين النظر الذي يولد العلم، والنظر الذي يولد الجهل، ولا بين الدليل والشبهة، وانما يعلم كون الدليل دليلا إذا حصل له العلم بالمدلول، فاما قبل حصوله، فلا يعلمه دليلا.
وما أدى إلى قبح كل نظر، ينبغي أن يحكم بفساده لأنا نعلم ضرورة حسن نظر كثير من أمر الدين والدنيا معا.
والنظر الذي ذكرناه لا يصح إلا من كامل العقل (1) *، فلا بد أن نبين ماهية العقل.
والعقل: هو مجموع علوم إذا حصلت كان الانسان عاقلا، مثل أن يجب أن يعلم المدركات إذا أدركها وارتفع عنها اللبس، وأن يعلم أن الموجود لا يخلو من قدم أو حدوث، وأن المعلوم لا يخلو من وجود أو عدم، ويعلم وجوب كثير من الواجبات، وحسن كثير من المحسنات، مثل وجوب رد الوديعة، وشكر النعمة، وحسن الاحسان، ويعلم قبح كثير من المقبحات، مثل الظلم المحض، والكذب العاري من نفع ودفع ضرر، والعبث وغير ما عددناه، ويعلم تعلق الفعل بالفاعل (2) * وقصد المخاطبين، ويمكنه معرفة ما يمارسه من الصنايع، ويمكنه أيضا معرفة مخبر الاخبار، وغير ذلك.
فإذا حصلت هذه العلوم فيه كان كامل العقل يصح منه الاستدلال على الله تعالى، وعلى صفاته، وعلى صدق الأنبياء عليهم السلام.
ووصفت هذه العلوم التي ذكرناها بالعقل لوجهين:
أحدهما: انه لما كان العلم بقبح كثير من المقبحات صارفا له عن فعلها، وعلمه
Shafi 23
بوجوب (1) كثير من الواجبات، داعيا له إلى فعلها، وصارفا عن الاخلال بها، سمى عقلا تشبيها بعقال الناقة الذي يمنعها (2) من السير.
والثاني: انه لما كانت العلوم الاستدلالية لا تثبت الا مع ثبوت هذه العلوم، سميت عقلا تشبيها أيضا بعقال الناقة، ولأجل ما قلناه لا يصح وصف القديم تعالى بأنه عاقل، لان هذا المعنى لا يصح فيه.
وأما الامارة فليست موجبة للظن، بل يختار الناظر فيها عندها الظن ابتداءا، لأنا نعلم أنه ينظر جماعة كثيرة في امارة واحدة من جهة واحده، فلا يحصل لجميعهم الظن، فلو كانت مولدة لوجب ذلك، كما يجب ذلك في الدليل، ألا ترى ان الجماعة إذا نظرت في الدليل من الوجه الذي يدل، حصل لجميعهم العلم، ولم يحصل لبعضهم دون بعض، وليس كذلك الظن.
Shafi 24