ألا لعمري إن الإنسانية لبريئة من قوم أدنياء؛ يدخلون بيوت غيرهم بدعوى أنهم يريدون إصلاحها .
خير لهم أن يتركوا البيت لصاحبه، والبلاد لأهلها، والأوطان لسكانها، ولا يدخلوها فيعكرو عليهم صفو الحياة ولذة المعيشة، يدخلونها وكأنهم رسل عزرائيل يتقدمهم الموت، ويسير بين أيديهم الردى.
مالك أنت أيها الأجنبي النازح ليصلح وطنا غير وطنه، المتطلع لبلاد غير بلاده؟ ألا خير لك أن تهتم ببلادك قبل أن ترحل إلى أخرى لتسلب أهلها الراحة أو تحتلها باسم الإنسانية وهي براء منها؟
لنرجع إلى حديثنا الأول إذ تركنا بولاندا تقسم كأنها سقط المتاع.
قام من وسط البولانديين جورج كوسكيوسكي، ذلك الرجل الذي يلقبه التاريخ بالبولاندي الوطني الحر.
وإنه لجدير بهذا اللقب وأكثر؛ فإنه قام في وجه ثلاث دول كبار تعتبر من أعظم دول الأرض مكانة، واستمر يجاهد ويناضل لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلا، فكأنه كان متحققا أن الله ناصره؛ فلم تتزعزع ثقته بنفسه وبجيوشه.
ولكن الذي أسقطه ودك عزيمته هو مقاومته لثلاث دول مرة واحدة، فكان كناطح صخرة ليوهنها.
وعدا ذلك فإن سعي روسيا المتواصل في ضم القطعة التي أصابتها من التقسيم كان قاطعا لآمال جورج وأمانيه.
فقد انتشر العمال الإداريون الروسيون في أنحاء المملكة، وزاد استبدادهم وعم، حتى ضج الآهلون لذلك، وقاموا كلهم يتألمون لحريتهم المفقودة، ولكن اليد الاستبدادية كانت شديدة الوطء، فضربتهم بيد من حديد، أخمدت بها أنفاس تلك الوطنية المستعرة، وأطفأت بحر أنفاسها ذاك اللهيب المتقد.
ولكن الوطنية الحقة لا تمحى أبدا ولو عاكسها الدهر، وناوأها الزمن، ولا ريب في ذلك؛ فإنه واجب محتم، يجب على الإنسان حفظه وكتابته بحروف من نار، خصوصا إذا كان وطنه مهانا ضاعت حقوقه.
Shafi da ba'a sani ba