وزوجتك أيضا بخير، تلك السيدة التي لا تجارى في النبل والتواضع، ولكي أختصر خلائقها جميعا في كلمة واحدة، أقول إنها نسخة من والدها، قلت إنها حية ترزق، وإنها وقد عافت الحياة ما تزال تهفو إليك وحدك وتذرف عليك الدموع (ربما تكون هذه نقطة تنتقص من سعادتك).
وماذا أقول عن ابنيك القنصلين، إنهما ما يزالان، مثلما كانا منذ الصبا، يعكسان مثالك في الخلق ومثال جدهم، أنت رجل سعيد، إذن، إذا كنت تعرف أين تكمن سعادتك الحقة، فإذا كان هم أهل الفناء منصرفا إلى التمسك بالحياة، فإن بحوزتك الآن من الأنعم ما لا يشك أحد أنه أغلى من الحياة نفسها، جفف دموعك إذن، فالحظ لم يدر لك ظهره تماما، ولم يسلبك كل ثرواتك، والعاصفة التي ضربتك لم تكن قاصمة، وما تزال مراسيك ثابتة راسخة، تتيح لك راحة في الحاضر وأملا في المستقبل.
قلت: «وإنني لأدعو أن تبقى راسخة، ففي بقائها سيكون بوسعي أن أصمد للعاصفة وأتم رحلتي مهما كانت الظروف، ولكن انظري كم فقدت من أمجادي الماضية.»
قالت: ما دمت غير برم بنصيبك من كل النواحي فإننا نكون قد تقدمنا إلى الأمام شيئا ما، غير أني لا أحتمل ترددك وإغراقك في التحسر على ما فاتك من أسباب السعادة، فمن ذا الذي اكتمل حظه من السعادة فلم يدع له سببا للشكوى؟ إن هناء الإنسان هو بطبيعته أمر قلق محفوف بالاضطراب: فهو إما هناء غير مكتمل وإما هناء غير دائم، فتجد الغني بالمال مفتقرا إلى نبالة الأصل وكرم العنصر، وتجد الحسيب النسيب وقد أخمله العوز وضيق ذات اليد، وتجد من ينعم بالثراء والحسب يشقى لافتقاره إلى الزوج، وتجد السعيد في زواجه محروما من الأبناء يذخر أمواله لكي يرثها الأغراب، وتجد من رزق الأبناء شقيا بأعمالهم، ما من أحد يرضى بما قسم له الحظ، فلكل منا نصيبه المقدور من الألم الذي لا يعرفه إلا من كابده.
تذكر أيضا أن أولئك الأوفر حظا من السعادة يكونون مفرطي الحساسية: فمن حيث إنهم لم يوطنوا النفس على معايشة المحن تراهم، إذا لم يجر كل أمر وفق هواهم، يسقطون لأقل محنة وينهارون لأهون سبب، وبوسع أتفه المصاعب أن تحرمهم من أن يخبروا السعادة بملء القلب.
ترى كم من الناس يعد نفسه متقلبا في مثل نعيم الجنة لو أنه حظي بمعشار ما تبقى لك الآن من نعيم؟ هذا المكان نفسه الذي هو منفى بالنسبة لك هو وطن بالنسبة لقاطنيه، ليس شقاء إذن إلا ما تعده أنت كذلك،
2
والعكس أيضا: كل قدر هو قدر سعيد لو أنك تلقيته بثبات ورباطة جأش، لم يبلغ أحد قط من السعادة حدا لا يتمنى معه، إذا ما استسلم للقنوط، أن يغير حاله، ألا ما أشد المرارة التي تمتزج بحلاوة الحياة، فرغم أنها قد تبدو ممتعة لذائقها، فإنه لا يمكنه استبقاؤها إذا هي آذنت بالزوال، ألا ما أبأسها تلك السعادة التي تأتي من حطام الدنيا: فلا هي تدوم للعاقل ولا هي تقنع الأحمق.
لماذا إذن يا أهل الفناء تبحثون عن السعادة خارج أنفسكم وهي كامنة فيها؟ إن الضلال والجهل ليذهبان بكم كل مذهب.
دعني أوجز لك سر السعادة الخالصة: هل هناك ما هو أغلى عندك من نفسك؟ ستقول لا، إذن إذا كنت سيد نفسك فأنت تملك شيئا لا تود أن تفقده على الإطلاق، ولا يستطيع الحظ أن يسلبك إياه، إن السعادة لا يمكن أن تعتمد على أشياء خاضعة للمصادفة، فإذا كانت السعادة هي الخير الأقصى للكائن الذي يعيش حياته بواسطة العقل، وكان الخير الأقصى شيئا لا يمكن أن يسلب من صاحبه على أي نحو (لأنه إن يسلب لكان ما لا يسلب خيرا منه)، ينتج من ذلك أن الحظ، بتقلبه وانعدام ثباته، لا يمكن، ولا يؤمل فيه، أن يؤدي إلى السعادة.
Shafi da ba'a sani ba