ب : «كيف ذاك؟»
ف : «تماما مثلما هو الحال في الكائنات الحية: إذا التقى الروح والجسم وبقيا متحدين نكون بإزاء كائن حي، أما إذا تفسخت هذه الوحدة بانفصال أي مكون، فمن الواضح أن الكائن يهلك ولا يعود موجودا، ينطبق الأمر أيضا على الجسد نفسه: فما دام محتفظا بهيئة واحدة من خلال اتحاد أعضائه فأنت ترى صورة بشرية، أما إذا تفرقت الأجزاء وانفصلت وانحطمت وحدة الجسم فإنه لا يعود ما كان، وبوسعك أن تستعرض كل شيء وسيكون واضحا لك من دون أي ظل من الشك أن كل شيء يبقى ما دام واحدا ويزول بزوال وحدته.»
ب : «نعم، بوسعي أن أعدد كثيرا من الأشياء التي ينطبق عليها ذلك.»
ف : «والآن، هل هناك شيء يفقد خلال مسعاه الطبيعي إرادة البقاء ويرغب في الموت والفساد؟»
ب : «في حدود المخلوقات الحية التي تتمتع في طبيعتها بالإرادة لا أعرف في أي منها أي رغبة في التخلي عن عزمها على البقاء كما هي، أو في التعجيل بالموت، ما لم ترغمها على ذلك قوى خارجية قاهرة، فما من حي إلا يجهد للبقاء ويتجنب الموت والهلاك، أما بالنسبة للشجر والنبات فيخالجني الشك فيما ينبغي أن أقره بشأنها.»
ف : «وحتى في هذه الحالة ليس هناك مجال للتردد، فأنت ترى كيف ينمو الشجر والنبات في الأماكن الملائمة له، وكيف يذوي سريعا ويموت إذا لم يلائمه المكان، منه ما ينمو في الحقول، وما ينمو في الجبال، والبعض تغذوه المستنقعات، والبعض يتعلق بالصخور والبعض يترعرع في الصحاري المقفرة فإذا ما غرسته في مكان آخر صوح وذبل، إن الطبيعة لترأم كلا بما يلائمه وتكد لتدرأ عنه الموت ما دامت شروط الحياة مواتية.
تأمل كيف تدبر النباتات غذاءها بجذورها، لكأنها تضرب في الأرض أفواهها، وكيف تدب العافية في لبها ولحائها، وانظر كيف يتوارى جانبها الأرق، كالعصير، دائما إلى الداخل، بينما تتدرع بلحاء خارجي له بأس الخشب يقيها غوائل الطقس، وانظر مدى حرص الطبيعة على أن تضمن لكل النباتات استمرارها بإكثار بذورها، إنها، كما هو معلوم جيدا، أشبه بآلات منتظمة، ليس لمدة حياتها فحسب، بل لامتداد نوعها وذراريها إلى الأبد.
حتى الأشياء التي يفترض أنها غير حية تحافظ جميعا على نفسها على نحو مماثل، لماذا يعلو اللهب إلى أعلى بخفته وتهبط الأجسام الصلبة إلى أسفل بثقلها، إن لم يكن ذلك لملاءمة هذه الأوضاع والحركات لكل منها؟ وفضلا عن ذلك، فإنها تحفظ ما هو ملائم لكل شيء مثلما تدمر ما هو مؤذ له، فالأشياء الصلبة، كالحجر، تندمج بتماسك شديد بين أجزائها وتقاوم الانكسار، أما السوائل والهواء والماء، فتستسلم للانقسام وتعود فتلتئم بسهولة مع أجزائها المنفصلة، أما النار فلا يمكن أن تقطع على الإطلاق.
لسنا بصدد الحركات الإرادية للعقل الواعي، بل الحركات الغريزية للطبيعة، فنحن، على سبيل المثال، نهضم الطعام الذي تناولناه دون أن نعي ذلك، ونتنفس لا شعوريا أثناء نومنا، فحب البقاء حتى في الأشياء الحية ليس مرده إلى رغبة العقل بل إلى مبادئ الطبيعة، فكثيرا ما يقبل العقل، تحت تأثير الضغوط الخارجية، فكرة الموت، بينما ترفضها الطبيعة في وجل، ومن جهة أخرى، قد تكبح الإرادة عملية الإنجاب، وهي الطريقة الوحيدة لاستمرار المخلوقات الفانية، بينما ترغب فيها الطبيعة على الدوام، إلى هذا الحد ينجم حب البقاء لا من الرغبة الواعية بل من الغريزة الطبيعية، هكذا منحت العناية مخلوقاتها سببا عظيما لاستمرار الحياة، وهو الرغبة الغريزية للبقاء على قيد الحياة جهد المستطاع، ومن ثم فليس لك أي مبرر للشك في أن جميع الأشياء الكائنة لديها رغبة فطرية في استمرار وجودها وتجنب فنائها.»
ب : «أعترف أنني أرى الآن دون أدنى شك ما بدا لي غير يقيني منذ قليل.»
Shafi da ba'a sani ba