وحين بدأت سناء تتكلم، ولم تكن أولى كلماتها توحي أنها ستمضي هكذا ترص ذلك الخطاب الطويل ... حين بدأت بدأ معها ضيقه الشديد وتذمره، ولكنه ربما لأنه وجد نفسه للمرة الأولى في حياته في موقف لا يستطيع فيه أن يرفض الاستماع، فالمتحدثة كانت سناء والحديث كله أول حديث جاد يدور بينهما ويتطور إلى أن يصبح نقاشا عليه فيه أن ينصت جيدا ويعي ليمكنه أن يرد، ربما لهذا - وحين طال أمد إنصاته وإصغائه، بلا عداء يكنه للمتكلمة - أكثر من هذا بحب أو بعاطفة قريبة جدا من الحب.
حين حدث هذا كله وجد الجندي نفسه في محنة لم يستعد لها، فحقيقة وللمرة الأولى يجعله كلام شخص آخر يبدأ يشك في صحة رأيه، وطريقته وموقفه من الحياة تلك التي لم يتطرق إليه الشك فيها يوما؛ على الدوام إذا كان هناك خطأ فهو حتما وقطعا وبلا جدال خطأ الآخرين.
حادث لا يمكن أن يقع أو يحدث، مستحيل! شيء مفروغ منه لا يحتمل جدلا أو نقاشا.
ولكنه مجرد شك انتابه، للإنصاف أشباح شك أجل الحكم لها أو عليها إلى ساعة يخلو فيها لنفسه ويفكر بعمق فيها، أما في تلك اللحظة فالحديث لا يزال متصلا، وسناء انتهت من كلماتها وتنتظر إجابته، فقد وجد نفسه بابتسامة غير محدودة المعنى أو الهدف يقول: كلامك كله جايز يا ست سناء، وكل اللي يهمني إنك تبقي إنتي وتفضلي حلوة ونضيفة وفوق الناس كلها، ويمكن عندك حق، إيش جاب لجاب؟ إنتي في السما فوق واحنا في الأرض، يمكن تحت الأرض كمان، إحنا ناس حرامية حلل ... مين عارف، ما يمكن إحنا كده صحيح وما حناش عارفين؟
كان يريد إجابة يمجد فيها من سناء ويتملقها، ولكنه لا يدري كيف انقلبت إلى كلمات ذليلة ... ذليلة وبلهجة ذليلة مست وترا في قلب سناء كاد يطفر الدمع من عينيها، وبنفس القوة التي خافته بها حين كان يثور وجدت نفسها، وكأن الآية انقلبت وكأنها العملاقة الضخمة وهو الدودة الزاحفة، وجدت نفسها ترثي له دون إرادتها، وعملت الكلمات واللهجة التي كان واضحا أنها صادقة وأن قائلها يعنيها حقيقة، عملها في الحال واحمر وجه سناء تأثرا وحرجا ولم تدر ماذا تفعل ولا ماذا تقول؟ حرجا وارتباكا لا يدانيهما إلا حرجها وارتباكها يوم أحست أن محمد الجندي أهانها أكبر وأخطر وأول إهانة من نوعها وجهت لها في حياتها.
كل ما استطاعت أن تفعله أنها غمغمت معتذرة، ثم غادرت الحجرة بسرعة قاصدة التواليت لتنهي الموقف ... بالضبط نفس ما فعلته يومها.
وبينما كانت تصلح «فورمة» شعرها بيدها، بينما عقلها تائه تتجاذبه انفعالات متضاربة خفية، كان مركز الخطر الغريزي في نفسها يتخذ قرارا بلا حيثيات أو أسباب أو دوافع، ولكنها كانت مصممة عليه بقوة: أن تنهي كل انشغال في نفسها بالجندي سواء أكان ثقل دمه أو قبح ملامحه أو فساد أخلاقه أو ذلته، وفي الحال.
وحين عادت إلى البيت لتجد المناقشة التي تكررت كثيرا في الأيام الأخيرة، بين أمها وهي تحاول أن تغري أسامة بتناول الطعام، وأسامة وهو يرفض ويلح في الرفض ... المناقشات التي لم تكن تنتهي إلا بتدخل سناء واحتضانها لأسامة وعبثها بشعره وتغيير المنطق الذي تحثه به، حتى يرضى أسامة في النهاية أن يبتلع بضع لقم أخرى إكراما لخاطر أخته، حدث نفس الشيء في ذلك اليوم، ولكنها وذراعها تضم أسامة ويدها تعبث بشعره فطنت إلى خاطر لم يطرق عقلا قبلا ... إن ما يحدث لأسامة والاضطراب الخطير الذي اجتاح حياته بعد حرمانه من الامتحان إن هو إلا ثمن «لنظافتها»، ثمن لم تدفعه هي، ولكن تحمله وسحق به هذا الصبي الذي لا ذنب له، إنه كالنبات النامي لا بد له من الحصول على الماء والغذاء وإلا هلك، ولا بد لأهله أن يوفروا له هذا وبأي ثمن وبأي وسيلة، فهو كالنبات لا يهمه سوى مطلبه من الغذاء، لا يهمه أبدا نوع المصدر، ترى هل يغفر لها الآن أو حين يكبر - وهي المسئولة عنه وعن عائلتها الصغيرة - أنها جعلته يقاسي من ضربة معطلة قاصمة فقط لتظل في نظر نفسها وفي نظر الناس محترمة نظيفة؟ إنها تعرف آباء وأمهات يحللون الحرام ليوفروا لأولادهم الغذاء والكساء، وربما محمد الجندي في كل قذارته لا يفعل أكثر من أن يوفر للجيش الجرار الذي أوجده على سطح الأرض حاجته، بمعنى آخر هو يضحي بذاته ويلوثها لينقذ أولاده ، أيهما إذن أكثر نظافة؟
لقد أمضت ساعات الصباح تعطي الجندي دروسا في النظافة والصواب والخطأ، لماذا لا تواجه نفسها الآن كما واجهته وتعترف بالمعنى الحقيقي لما فعلته؟ أليس معناه الحقيقي أنها كانت أنانية إلى درجة دفعتها للتمسك بذاتها وقيمها حتى ولو أدى الأمر إلى تشريد أخيها الصغير وابنها وحبيبها الوحيد؟ وأليس معناه الحقيقي أيضا أن محمد الجندي أقل منها أنانية، بل هو ملاك إذا قيس بها، مسيح ضحى بذاته ولوثها ومرمطها من أجل أن ينشأ أبناؤه الذين يحبهم نظافا صالحين؟
أفكار تطرق عقلها لأول مرة وتقلب تفكيرها رأسا على عقب، وتجعلها تغوص وتغوص في التأمل على هدي هذه الخواطر، إننا حلقة واحدة من سلسلة طويلة نصل فيها بين آبائنا وجدودنا وبين أبنائنا وأحفادنا، ونفعل هذا برغمنا لأنه وضع لم نستشر فيه، فقد خلقنا بما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من علامات، وبما سنورثه لأبنائنا وأحفادنا، من أجل هذا نحن لا نملك أن نفكر في أنفسنا كأنفسنا فقط، وإنما علينا أن نفكر فيها باعتبارها جزءا من سلسلة، وهمزة الوصل بين جيل مضى وجيل مقبل بحيث نعي أن القرار الذي نتخذه لا يخصنا وحدنا ولكن سيؤثر أعمق التأثير في حلقات السلسلة من بعدنا، وأولئك الذين يفكرون في أنفسهم ك «أحرار» ك «أنا موجود» ك «أنا الكون» ك «أنا البداية والنهاية» أناس مخرفون يتجاهلون ألف باء الوجود الإنساني، بمعنى أدق يقطعون بهذا النوع من التفكير أنفسهم من سلسلة البشر، يصبحون كالسيقان والأذرع المبتورة عمرها محدد بعمر خلاياها، في حين أنهم وهم أعضاء ومكونات في السلسلة البشرية عمرهم يبدأ قبل مولدهم بملايين السنين هي عمر البشرية قبل وجودهم، وعمرهم يظل ممتدا بعد موتهم بملايين السنين هي عمر البشرية من بعدهم، من المهم جدا إذن حين نتحدث عن أنفسنا وقيمنا والحرام والحلال والعيب واللاعيب بالنسبة إلينا أن نضع في اعتبارنا أنها ستكون كذلك أيضا بالنسبة لأبنائنا ومن بعدهم بالنسبة لأحفادنا. •••
Shafi da ba'a sani ba