والتفتت سناء إلى الزملاء فوجدتهم ولا كأنهم هنا، ولا كأن أحدا سمع أو رأى.
وتسمرت في كرسيها وقد دهمها الشعور الضاغط القاهر الذي لا بد ساور كلا منا في لحظة من حياته ... الشعور بأنها وهي وسط الدنيا المزدحمة بالناس والأصدقاء والأقارب والمعارف وحيدة منبوذة كأنها مريض مصاب بالجذام أو خاطئة يتبرأ الكل منها ... الشعور الذي يجعلنا نرثي لأنفسنا رثاء يدفعنا - حتى أقوى الأقوياء منا - للبكاء.
ولكن شعور سناء كان واضحا مكشوف الوجه صاعقا إلى درجة حرمتها حتى من نعمة البكاء، بل دفعها إلى القيام بعمل لم تكن تتصور ولو في الأحلام أن تقوم به، إذ وجدت نفسها بعد قليل تذهب إلى صفوت أفندي وتلح عليه أن يفرغ لها قليلا، ثم تحكي له المشكلة وتسأله إن كان لديه حل، وكالقاضي الذي لا أثر للعواطف في كلماته يفهمها الرجل أنه لا يملك لها أي حل، وحتى السلفة على ماهيتها يلزمها إجراءات تستغرق يومين على الأقل، وسكت بينهما الحديث باستغراق متعمد آخر من جانبه في العمل تاركا إياها واقفة غير قادرة حتى أن تقرر ما إذا كان باستطاعتها أن تعود إلى مكتبها وتجلس.
كل ما استطاعت أن تفعله أخيرا وهي في وقفتها تلك، هو أن تجوب الحجرة بنظرات مستغيثة مسلوبة الروح كانت تدرك أنها الأخيرة، وأنها للتأكد ليس إلا، نظرات مضت تصوبها إلى الجدران والدواليب والمكاتب والوجوه المتعمدة الانكباب على الأوراق، وهي تدق بإلحاح هستيري مجنون ... النجدة! النجدة!
ومن كل اتجاه كانت نظراتها تعود بغير أن تعلق بها بادرة استجابة واحدة، وكان رد الوجوه على استغاثتها تماما مثل رد الجيران ... الصمت المطبق التام. •••
ولأن المعجزة الإلهية لم تحدث ولا فتح السقف في الليل وتساقطت منه نقود، فقد جاء الصباح التالي ، وليس في البيت سوى الجنيه الذي كان موجودا ليلة الأمس.
وجاءت الساعة السابعة لتجد سناء قد استصحبت أسامة إلى المدرسة حاملة كل مالية الأسرة، ذلك الجنيه، مؤملة أملا سخيفا أن تتنازل المدرسة مثلا في آخر لحظة عن شرط دفع المصاريف، أو أن تستكتبها تعهدا أو أي احتمال آخر يعادل في غرابته وبعده عن الواقع حكاية السقف الذي يفتح وتسقط منه النقود.
وأتعس ساعة قضتها سناء وهي ترى التلاميذ جميعا يتهيئون لدخول الامتحان، ويحيون أسامة، وأسامة يخجل من رد التحية، ثم وهي ترى بضعة تلاميذ آخرين قد استصحبوا كأسامة أولياء أمورهم، الذين تجمعوا حول الصراف الذي كان قد وضع لنفسه تختة وكرسيا كالمحصل قريبا من مكان اللجنة، ثم وهي تكتشف أنهم جميعا سددوا وأخذوا الإيصالات وقبلوا آباءهم علامة الفرحة، وأن أسامة هو الوحيد الذي لن يدفع، وهو الوحيد الذي حين دق الجرس بقي واقفا بجوارها يراقب زملاءه الداخلين إلى العنابر والفصول ويبكي، ويمنعها بكاؤه من البكاء، ثم تفاجأ به ينطلق من جوارها راكضا بأقصى قوته مخترقا باب المدرسة إلى الشارع إلى حيث لم تعد تعلم.
وبقيت هي وأمها على نار حامية حتى عاد لهما مطأطئ الرأس ذليلا قرب الظهر ... ودون أن ينطق حرفا خلع ملابسه وارتدى البيجاما ونام.
وبالضبط بعد ثلاثة أيام كان الجرح قد التأم، وأصبح يؤلم فقط حين تتحسسه سناء أو يتعرض رغما عنها للمس، ونحن في الحياة لا ننسى ولا تلتئم جروحنا بالاستشفاء أو تغيير الجو أو بالمفاجأة السارة حين تقبل ... نحن ننسى الجرح بجروح أخرى طازجة نصاب بها وتستحوذ على اهتمامنا، وسناء في اليوم التالي وجدت مشكلة تنتظرها وتهددها في وظيفتها وعملها، مشكلة اليوم الذي تغيبته دون إذن ودون حق في إجازة عرضية أو اعتيادية، والحق الوحيد الباقي ... الحق في إجازة مرضية كان يلزم للتمتع به شهادة من طبيب تكلفها على الأقل خمسين قرشا، أو بالدقة سبعة وثلاثين قرشا ونصفا، فقد اقتضى الأمر نزهة لأسامة وأكلا لحلويات وسهرة في سينما، وتصوروا أن هذه الشهادة ذات الخمسين قرشا كادت تكلف سناء وظيفتها، لولا ما طلت به وجهها من وقاحة وجرأة وألحت على زميلاتها في المصلحة رغم اعتذارهن وتحججهن بآخر الشهر، حتى جمعت منهن ثمن الشهادة خلال يومين من السؤال الدائب المتصل!
Shafi da ba'a sani ba