ـ[العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم]ـ
المؤلف: الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة ٨٤٠ هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه: شعيب الأرنؤوط
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت
الطبعة: الثالثة، ١٤١٥ هـ - ١٩٩٤ م
عدد الأجزاء: ٩
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
Shafi da ba'a sani ba
العواصم والقواصم
في الذب عن سنة أبي القاسم
تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة ٨٤٠ هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه
شعيب الأرنؤوط
الجزء الأول
مؤسسة الرسالة
1 / 1
العواصم والقواصم
في
الذب عن سنة أبي القاسم
١
1 / 2
جميع الحقوق محفوظَة
لمؤسسَة الرسَالة
ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد.
سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفرادًا.
الطبعة الثالثة
١٤١٥ هـ - ١٩٩٤ م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة
هاتف: ٦٠٣٢٤٣ - ٨١٥١١٢ - ص. ب: ٧٤٦٠ برقيًا، بيوشران
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 4
قالوا في «العواصم» ومصنفه:
١ - «كان مقبلًا على الاشتغال بالحديث، شديد الميل إلى السُّنَّة». الحافظ ابن حجر «إنباء الغمر» ٧/ ٣٧٢
٢ - «إن العواصم والقواصم يشتمل على فوائد في أنواع من العلوم، لا توجد في شيء من الكتب، ولو خرج هذا الكتاب إلى غير الديار اليمنية لكان من مفاخر اليمن وأهله». الشوكاني «البدر الطالع» ٢/ ٩١
٣ - «والذي يغلب على الظن أنّ شيوخه لو جمعوا جميعًا في ذاتٍ واحدةٍ لم يبلغ علمهم إلى مقدار علمه، وناهيك بهذا، ولو قلت: إن اليمن لم تنجب مثله، لم أبعد عن الصواب». الشوكاني «البدر الطالع» ٢/ ٩٢
٤ - «كان فريد العصر، ونادرة الدهر، خاتمة النُّقاد، وحامل لواء الإسناد، وبقية أهل الاجتهاد، بلا خلاف وعناد، رأسًا في المعقول والمنقول، إمامًا في الفروع والأصول». صدّيق حسن خان «أبجد العلوم» ٣/ ١٩٠
1 / 5
الإمام محمد بن إبراهيم الوزير
وكتابه العواصم والقواصم
بقلم
القاضي الفاضل الأستاذ إسماعيل الأكوع
رئيس الهيئة العامة للآثار ودور الكتب باليمن الشمالي
1 / 7
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله نحمُده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ باللهِ من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهدِ الله، فهو المهتدي، ومن يُضلِل، فلا هادِيَ له ونصلي ونسلِّم على رسول الله الهادي إلى أقوم طريق، وأوضح سبيل، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإني لا أجد -وأنا أتحدثُ عن الإمام الجليل محمد بن إبراهيم الوزير، ﵀ عبارةً تصفُ علماء السنة المجتهدين في اليمن وهو في مقدمتهم أدق وأشمل من كلمة شيخ الإسلام الشوكاني ﵀ وهو يترجم للإمام تفسه في كتابه " البدر الطالع " مشيرًا إلى جهل علماء المسلميين خارج اليمن بمكانة علماء السنة في اليمن، وعُلُوِّ منازلهم، وطول باعهم، ورسوخ أقدامهم في ميادين الاجتهاد وهذا نصُّها:
"ولا ريب أن علماء الطوائف لا يُكثرُون العناية بأهل هذه الديار (اليمن) لاعتقادهم في الزيدية ما لا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطَّلِع على الأحوال، فإن في ديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عددًا
1 / 9
يُجاوِز الوصف، يتقيِّدونَ بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صحَّ في الأمهات الحديثية، وما يلتحق بها مِن دواوين الإسلام المشتملة على سنة سيد الأنام، ولا يرفعون إلى التقليد رأسًا، لا يشوبون دينَهم بشيء من البدع التي لا يخلو أهلُ مذهب من المذاهب من شيء منها. بل هُم على نمط السلف الصالح في العمل بما يدل عليه كتابُ الله، وما صحَّ من سنة رسول الله مع كثرة اشتغالهم بالعلوم التي هي آلات علم الكتاب والسنة من نحوٍ وصرفٍ وبيانٍ وأصولٍ ولغةٍ، وعدم إخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية. ولو لم يكن لهم مِن المزية إلا التقيدُ بنصوصِ الكتاب والسنة، وطرح التقليد، فإن هذه خصيصة خصَّ اللهُ بها أهل هذه الديار في هذه الأزمنة الأخيرة، ولا تُوجد في غيرهم إلا نادرًا" (١).
أما سببُ تفرد اليمن بظهور علماء مجتهدين ملتزمين بالعملِ بكتاب الله وسنة رسوله ﵌ غير ميِّالين إلى أيِّ مذهب من المذاهب الإسلامية المعروفة، فيرجِعُ إلى أن المذهب الزيدي في أصل عقيدته يدعو إلى الاجتهاد، فلم يَحجُرْ على أتباعه حريةَ التفكير، ولا قيَّدهم بالتزام نصوصه وآرائه، ولكنه أطلق لهم العِنَانَ، وترك لهم الخِيار بعد أن جعل بات الاجتهاد مفتوحًا لمن حذق علومه واستوفى شروطه؛ فكان هذا حافزًا لمن وهبه اللهُ ذكاءً وفِطنة، ورزقه فهمًا وبصيرة أن يعملَ بما أوصله إليه اجتهادُه من أدلة الكتاب والسنة، فكان الإمام محمد بن إبراهيم الوزير أبرزَ منْ بلغ أقصى درجاتِ الاجتهاد المطلق، وكذلك الحسن بن أحمد الجلال (١٠١٤ - ١٠٨٤) وصالح بن مهدي المَقْبلي (١٠٣٨ - ١١٠٨) ومحمد بن إسماعيل الأمير (١٠٩٩ - ١١٨٢) ومحمد
_________
(١) البدر الطالع ٢/ ٨٣.
1 / 10
ابن علي الشوكاني (١١٧٣ - ١٢٥٠)، ﵏ جميعًا على تفاوتٍ فيما بينهم.
ولم أخص هؤلاء بالذكر إلا لأنهم نَعَوْا على العلماء المقلدين جمودَهم، وحثُّوا المسلمين على العمل بالكتاب والسنة، فهذا شيخ الإسلام الشوكاني يستطردُ في ترجمته للإمام الوزير استنكاره على العلماء المقلدين، فيقول: " وإني لأكثر التعجب من جماعة من أكابر العلماء المتأخرين الموجودين في القرن الرابع وما بَعده، كيف يقفونَ على تقليد عالم من العلماء، ويُقدمونه على كتاب الله وسنة رسوله مع كونهم قد عرفوا من علم اللسان ما يكفي فيم فهم الكتاب والسنة بعضه؟ فإن الرجل إذا عرف من لغة العرب ما يكون به فاهمًا لما يسمعه منها، صار كأحد الصحابة الذين كانوا في زمنه ﵌، ومن صار كذلك، وجب علبه التمسكُ بما جاء به رسولُ الله ععلى الله عليه وآله وسلم، وترك التعويل على محض الآراء. فكيف بمنْ وقف على دقائق اللغة وجلائلها إفرادًا وتركيبًا وإعرابًا وبناء؟، وصار في الدقائق النحوية والصرفية والأسرار البيانية، والحقائق الأصولية بمقام لا يخفى عليه مِن لسان العرب خافية، ولا يَشذُّ عنه منها شاذة ولا فاذة، وصار عارفًا بما صحَّ عن رسول الله ﵌ في تفسير كتاب الله، وما صحَّ عن علماء الصحابة والتابعين، ومنْ بعدهم إلى زمنه، وأتعب نفسه في سماع دواوين السنة التي صنفتها أئمة هذا الشأن في قديم الأزمان وفيما بعده فمن كان بهذه المثابة فكيف يسوغ له أن يعدل عن آية صريحةٍ، أو حديث صحيحٍ إلى رأي رآه أحدُ المجتهدين؟ حتى كأنه أحدُ الأغتام الذين لا يعرفون من رسوم الشريعة رسمًا. فيالله العجب، إذا كانت نهايةُ العالم كبدايته؛ وآخر أمره كأوله، فقل لي: أيُّ فائدةٍ لتضييع الأوقات في المعارف العلمية؟ فإن قول
1 / 11
إمامه الذي يُقلِّده هو ما كان يفهمه قبل أن يشتغل بشيء من العلوم سواه كما نُشاهده في المقتصرين على علم الفقه، فإنهم يفهمونه، بل يصيرون فيه من التحقيق إلى غاية لا يخفى عليه منه شيء، ويدرسون فيه، ويُفتون به وهم لا يعرفون سواه، بل لا يُميزون بينَ الفاعل والمفعول (١).
ثم خَلَصَ شيخ الإسلام إلى هذه النصيحة: " والذي أدينُ الله به أنه لا رُخصةَ لمن علِمَ من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله بعد أن يُقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف وشطرٍ من مهمات كليات أصول الفقه في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز، ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاعُ على كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون، وعملَ بها المتقدمون والمتأخرون، كالصحيحين وما يلتحقُ بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة، أو جمعوا فيه بينَ الصحيح وغيره مع البيانِ لما هو صحيح، ولما هو حسن، ولما هو ضعيف، وجب العملُ بما كان كذلك من السنة، ولا يَحِل التمسكُ بما يُخالفه من الرأي، سواء كان قائله واحدًا أو جماعة أو الجمهور، فلم يأت في هذه الشريعة الغراء ما يدل على وجوب التمسك بالآراء المتجردة عن معارضة الكتاب والسنة فكيف بما كان منها كذلك، بل الذي جاءنا في كتاب الله على لسان رسول الله ﵌ "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا". إلى آخر ما أورده في الحث على العمل بكتاب الله وسنة رسوله ﵌ وحدهما (٢) ".
مولد الإمام الوزير:
وُلِدَ على المشهور الصحيح في رجب سنة ٧٧٥ بهجرة الظَهْرَاوين
_________
(١) المصدر نفسه ٢/ ٨٤.
(٢) المصدر نفسه ٢/ ٨٥.
1 / 12
من شَظب (١) بيد أن المؤرخ عبد الوهاب بن عبد الرحمن البُرَيهي ذكر في تاريخه -وهو يترجم له- ما لفظه: " قلت: قرأتُ تاريخ مولده منقولًا من خطه، قال: مولدي سنة ست وسبعين وسبعمائة " وبمثل هذا روى الإمام شرف الدين في شرح مقدمة كتابه "الأثمار في فقه الأئمة الأطهار" حينما تعرض لذكر محمد بن إبراهيم الوزير استطرادًا (٢) فقال: " ورأيتُ لابن أخيه وأنا أدركتُ آخر مدته في أول وقت طلبي، رأيت له ترجمة لهذا بخطِّه؛ قال فيها: ولِدَ ﵀ في شهر رجب الفرد -كما وجدته بخطه- في سنة ست وسبعين وسبعمائة بهجرة الظهْرَاويْن بشَظَب، وهو جبل عالٍ باليمن ".
قلت: وإذا كانت هذه الترجمة التي اعتمد عليها الإمامُ شرف الدين هي التي بين أيدينا اليوم، فهي ليست لابن أخيه؛ وإنما هي لابن ابن أخيه محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير وقد ورد فيها ما لفظه: " مولده ﵁ ورحمه- في شهر رجب الأصب مِن سنة خمس وسبعين وسبعمائة بهجرة الظَهْرَاوين من شَظَب، وهو جبل عالٍ باليمن، هكذا نقلتُه من خطه ﵁، وحفظتُه من غيره من الأهل ".
_________
(١) شظب: جبل من بلد بني حجاج من ناحية السُودَة شمال غرب صنعاء على مسافة (١٠٠) كيلو متر تقديرًا وقد خربت هجرة الظهراوين ولم يبق إلا اطلالُها، وانظر في ذلك كتابنا "هجر العلم ومعاقله في اليمن".
(٢) ذكره الإمام شرف الدين بعد أن ذكر أبا محمد الحسن بن أحمد الهَمْداني صاحب "الإكليل" ونشوان بن سعيد الحميرى صاحب "شمس العلوم" وشنع عليهم فقدح فيهم للتحذير من الانخداع بكلامهم، وعدم الالتفات إلى ما يدعون إليه، ونسب إلى الإمام محمد بن إبراهيم الوزير أشياء لم يذكرها سواه من علماء اليمن حتى خصومه الذين اختلفوا معه، وانتقدوه، واعترضوا عليه. والسبب في ذلك أنه كان -كأخيه العلامة الهادي بن ابراهيم- مؤيدًا للإمام المنصور علي ابن الإمام صلاح الدين الذي تغلب على الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى جد الإمام شرف الدين، وألف فيه كتابًا أسماه " الحسام المشهور في الذب عن سيرة الإمام المنصور ".
1 / 13
أما ما ذكره السخاوي في " الضوء اللامع " بأنه وُلدَ تقريبًا سنة ٧٦٥ فلا صحةَ لذلك، وقد فَنَّد هذا الوهم شيخ الإسلام الإمام الشوكاني في " البدر الطالع " في ترجمته حيث قال: " وهذا التقريب بعيد والصواب الأول " (أي سنة ٧٧٥).
نشأته ودراسته وشيوخه:
نشأ في هجرة الظهراوين بين أهله الذين آثروا طلبَ العلم على ما سواه، وانقطعوا له، واشتغلوا به درسًا وتدريسًا وتأليفًا، فأخذ يسيرُ على منهجهم، ويقتفي أثرَ من سبقه منهم، متبعًا خطاهم، وملتزمًا بمسلكهم، فحفظ القرآن الكريم وجوده واستظهره، وحقظ متون كتب الطلب من نحوٍ وصرفٍ ومعانٍ وبيان وفقه وأصول، ثم أخذ في قراءة شروَحها المختصرة، ورحل إلى صعدة.
فأخذ عن أخيه الأكبر العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير في جميع الفنون تحقيقًا، واستفاد منه كثيرًا حتى في علم الأدب.
وأخذ عن القاضي العلامة محمد بن حمزة بن مظفر، وكان المشارَ إليه في علوم العربية واللغة والتفسير.
وقرأ علم الأصول على القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدَّوَّاري.
ثم رحل إلى صنعاء، فأخذ عن القاضي علي بن أبي الخير " شرح الأصول " وهو معتمد الزيدية في اليمن، " والخلاصة " للرصاص، "والغياصة الجامعة لمعاني الخلاصة" للقاضي محمد بن يحيى بن حنش، وتذكرة الشيخ ابن متَّويه، وسمع عليه " مختصر المنتهى " في علم الأصول لابن الحاجب، كما قرأ هذا المختصر على السيد جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم، ولما سمِعَه عليه، بهَرَهُ ما رأى من صفاء ذهنه، وحُسن نظره وألمعيته وبلاغته وفطنته وبراعته، وكان يُطنِبُ في الثناء عليه، ويرشد طلبة العلم إليه.
1 / 14
وأخذ أيضًا عن شيوخ آخرين.
أما ما قرأه لنفسه من سائر العلوم، فشيء كثير لا يأتي عليه الحصرُ.
وكان عمدة قراءته التي أفنى فيها عنفوان شبابه -كما ذكر أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه الفضائل- علم أصول الفقه وعلم أصول الدين (علم لطيف الكلام) فقد جود فيهما غايةَ التجويد؛ وفحص وحقق وبحث، وبلغ الغاية القصوى، واطَّلع من أقوال أهل الفنين على ما لا يكادُ يعرفه إلا مثلُه، كما يُحدثنا هو نفسه في كتابه " العواصم والقواصم " الذي نقدم له بقوله: " وقد وهبتُ أيام شبابي وزمانَ اكتسابي لكدوره علم الكلام والجدال والنظر في مقالات أهل الضلال حتى عرفتُ قولَ من قال:
لقد طُفتُ في تلك المعاهد كلها ... وسيَّرتُ طرفي بَيْن تلك المعالِمِ
وسبب إيثاري لذلك، وسلوكي تلك المسالك أن أول ما قرع سمعي، ورسخ في طبعي وجوب النظر والقول بأن من قلد في الاعتقاد كفر، فاستغرقتُ في ذلك حدة نظري وباكورة عمري. وما زلت أرى كل فرقة من المتكلمين تداوي أقوالًا مريضة؛ وتقوي أجنحة مهيضة، فلم أحصلْ على طائل، وتمثلت فيهم بقول القائل:
كل يداوي سقيمًا من معايبه ... فمن لنا بصحيحٍ ما به سقم
تحوُّله إلى علوم الكتاب والسنة:
فرجعت إلى كتاب الله وسنة رسوله، وقلت: " لا بد أن تكون فيهما براهين وردود على مخالفي الإسلام، وتعليم وإرشاد لمن اتبع الرسول ﵊، فتدبرت ذلك، وانشرح صدري، وصلح أمري وزال ما كنتُ به مبتلى ".
1 / 15
ثم يقول: " هذا وإني لما رَتَبْتُ رُتوب (١) الكعب في مجالسة العلماء السادة، وثبت ثبوتَ القُطب في مجالس العلم والإفادة، ولم أزل منذ عرفت شمالي من يميني مشمرًا في طلب معرفة ديني أتنقل في رتبة الشيوخ من قُدوة إلى قُدوة وأتوقَّل (٢) في مدارس العلوم من ربوة إلى ربوة ولم يزل يَرَاعي للطائف الفوائد نواطف (٣) وبناني للطف المعارف قواطف لم يكن حتمًا أن يرجعَ طرف نظري عن المعارف خاسئًا حسيرًا، ولم يجب قطعًا أن يعودَ جناحُ طلبي للفوائد مهيضًا كسيرًا، ولم يكن بِدْعًا أن تنسمتُ من أعطارها روائح، وتبصرتُ من أنوارها لوائح أشربت قلبي محبةَ الحديث النبوي، والعلم المصطفوي، فكنتُ ممن يرى الحظ الأسنى في خدمة علومه، وتمهيدِ ما تعفى من رسومه، ورأيتُ أولى ما اشتغلتُ به ما تعيَّن فرض كفايته بعدَ الارتفاع، وتضيّق وقت القيام به بعدَ الاتساعِ من الذب عنه، والمحاماة عليه، والحثَّ على اتباعه، والدعاء إليه، فإنه علْمُ الصدر الأول، والذي عليه بعدَ القرآن المُعوِّلُ، وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس، وهو المفسر للقرآن بشهادة ﴿لتبين للناس﴾ وهو الذي قال الله فيه تصريحًا ﴿إنْ هُو إلا وَحْي يوحى﴾ وهو الذي وصفه الصادق الأمين بمماثلة القرآن المبين، حيث قال في التوبيخ لكل مترف إمَّعة " إنِّي أُوتيتُ القُرآنَ ومِثلَه مَعه " (٤).
لذلك فقد رسخ هذا الإمامُ في علوم القرآن والسنة حتى فاق أقرانه، وزاحم شيوخَه وتخطاهم، وبلغ مِن علوم الاجتهادِ ما لم يبلُغْه أحدٌ منهم.
_________
(١) في القاموس رتب رتوبًا ثبت ولم يتحرك.
(٢) في القاموس: وقل في الجبل: صعد.
(٣) أي أن أقلامة لم تزل سائلة بلطائف الفوائد.
(٤) الروض الباسم ٥.
1 / 16
اجتهاده:
كان ﵀ من أبرز علماء اليمن المجتهدين على الإطلاق، وقد وصف العلامة أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه "الفضائل" مكانة اجتهاده وعلو منزلته بقوله: " وله في علوم الاجتهاد المَحلُّ الأعلى، والقدح المُعَلى، وبلغ مبلغ الأوائل، بل زاد، واستدرك، واختار وصنف، وألف وأفادَ وجمع وقيد، وبنا وشيد، وكان اجتهادُه اجتهادًا كاملًا مطلقًا، لا كاجتهاد بعض المتأخرين، فإن ذلك إنما يُسمَّى ترجيحًا لأدلة بعض الأئمة المستنبطين على بعض، لا ابتداء اجتهاد واستخراج للحكم عما عُرفَ من غير معترف انتهاض ذلك الدليل عليه بعدَ معرفته للحكم نفسه وللدليل، ولكيفية الدلالة، وانتفاء المعارض، وشروط الاستدلال في العقليات والسمعيات، والتبحر في علم الرواية، ومعرفة الرجال وأحوالهم في النقد (١) والاعتدال والوفيات والأنساب والشيوخ، والتعمق في علم الأصولين والعربية، والتوغل في معرفة الكتاب العزيز، والاطلاع السديد على تفسيره، وكلام المفسرين. ولم يكن بهذه الصفة بغير شك ولا مِرية غيرُ هذا السيد الإمام الأكبر النقيد في هذا الشأن الذي شَهِدَ له بذلك جميعُ أهل الزمان من الأقارب والأباعد، والمخالف له في الاعتقاد والمساعد، ولقد كان آية في زمانه لم يأت الزمانُ بمثلها.
وأما تلك المقاماتُ العالية، والاستخراجاتُ الأصلية من الأدلة الكلية مثل ما صنعه في استخراجاته واختياراته في مسائل الاجتهاد، فهم عن ذلك بمراحل؛ وكيف يكون ذلك؟ وهم يغلطونَ في أسماء الرجال المشهورين، وتلتبِسُ عليهم أزمانُهم، ويُصحِّفُون من أسماء كبارهم، ومن
_________
(١) في الأصل التقيد.
1 / 17
جَهلَ الاسم كيف يعرف الحال؟ وكثيرًا ما يضبِطون ألفاظًا في متون الحديث (١) مصحفة تصحيفًا يُفسد المعنى، ولا يُعرف منه المراد، ولا يَصِح معه ظن، ولا يصدق عنده اعتقاد. وهو الخبيرُ الخِرِّيتُ الماهِر من (٢) ذلك المقصد، وبما تدورُ عليه من معرفة التخصيص والنسخ أعرفُ وأقعد، والترجيح عند التعارض وغير ذلك من الأحكام المترتبة على ذلك وله القوة والمَلَكَةُ في تقوية بعض الأدلة بالطريق التي يقويها على اختلاف أنواع ذلك بوجه صريحٍ، وتصرفٍ صحيح، ولفظ فصيح، وحجة لازمة وأدلة جازمة عقلية ونقلية، وفي تضعيف بعض الأدلة مثل ذلك لا يتبع في ذلك إلا محض الدليل، ولا يكتفي فيه بمجرد أنه قيل كما عليه أكثر الناس تساهلًا وعدم تمكن واقتدار.
وأمره في التفسير لكلام رب العزة كذلك في معرفته نفسه، ثم معرفته قراءته، ومعرفة المفسرين والنقلة عنهم، ومعرفة أحوال الجميع، ومعرفة أسباب النزول وزمانه ومكانه، ومعرفة الألفاظ، وكثيرًا مما يتعلق بالتفسير وآيات الأحكام، وتنبني عليه قواعد شرع الإسلام مما يطولُ ذكرُه.
ثم قال: "وإنما الغرض التعريفُ أن حال هذا الرجل ﵀ ليس كحالِ غيره، وأن اجتهادَه كاجتهاد أئمة المذاهب، لا كالمخرجين (٣) ومجتهدي المذاهب، ولا كالمرجحين الذين لا يُرجِّحون بغير المعقول، ويشق عليهم معرفة الآثار النقلية، والاطلاعُ على الإسنادات، ومعرفة الرجال، وَيعْسرُ عليهم الأخذُ من لطائف أدلةِ الكتاب والسنة ومعرفتها ومعرفة أنواع الحديث ومراتبه وأقسامه من الصحة والحسن ونحوها التي
_________
(١) في نسخة الأحاديث.
(٢) في نسخة في.
(٣) كأبي طالب والمؤيد بالله الهارونيين.
1 / 18
عليها مدارُ الاجتهاد والترجيح والانتقاد، وليس لِغيره مثلُ هذه الأهلية، ولا أعطاهم الله -سبحانه- مثل هذه العطية" (١).
وما أصدق ما قاله شيخ الإسلام الشوكاني ﵀ فيه حيث يقول: " والذي يَغْلِبُ على الظن أن شيوخه لو جُمِعُوا في ذاتٍ واحدة، لم يَبْلُغْ علمُهم إلى مقدار علمه، وناهيك بهذا، ثم يقول: بعدَ كلام طويل: " ولو قلتُ: إن اليمنَ لم تُنْجِبْ مثلَه لم أُبعِدْ عن الصواب " (٢).
ولما بلغ من العلم هذه الدرجة العليا، وبخاصة في علوم القرآنِ والسنة التي بَرزَ فيها، وأقبل على العمل بكتاب الله، وما صَح من سنة رسول الله ﷺ داعيًا إلى الاجتهاد، ومندِّدًا بعلماء عصره الذين التزموا بالتقليد، لم يرُق لهم خروجُه على ما أَلفوهُ من التقليد ودعوته لهم إلى نبذه، والرجوع إلى العمل بكتاب الله وسنةِ رسوله ﷺ، فناصبوه العداء، وشنعوا عليه، وشكَّكوا في دعوته، وصدُّوا الناسَ عن سلوكِ هذا المنهج القويم، والذي تَصَدَّرَ هذه المعارضة هو شيخُه العلامة جمالُ الدين علي (٣) بن محمد بن أبي القاسم، فقد جرت بينَه وبينَ تلميذه منازعة في مسائل كما ذكر صاحب " الفضائل " وقال: " وكان مِن شيخه طَرَفٌ من الحَيف في السؤالات، وتحويلٌ لما يرويه الإمام محمد بن إبراهيم على صفة أنه يأخذ من كلامه مفهومًا لم يقصده، أو قد صرَّح بنفيه والإجماعُ منعقد على عدم اعتبار مفهومٍ وقع التصريحُ بخلافه، وما كان ذلك إلا لمكان دعوى الاجتهاد ".
_________
(١) الفضائل.
(٢) البدر الطالع ٢/ ٩٢.
(٣) هو مؤلف تجريد الكشاف، ويقال: إن له تفسيرًا حافلًا في ثمان مجلدات. مولده سنة ٧٦٩ ووفاته سنة ٨٣٧.
1 / 19
ثم قال: "وترسَّل السيدُ جمال برسالةٍ حكى فيها كلام الإمام محمد بن إبراهيم، وأجابه على حسب ما حكاه وطلح في موضع التطليح، وساقه مساقَ العلماء، وعلى منهاح الاستدلال والجدل الكامل في أحسن مساق وأوفى عبارة".
وقال محمد (١) بن عبد الله بن الهادي في ترجمته للإمام محمد بن إبراهيم: " وقد نسب -أي جمالُ الدين علي بن محمد بن القاسم في رسالته إلى محمد بن إبراهيم- القول بالرؤية، وبقدَمِ القرآن، ولمخالفته أهل البيت، وقد بناها على مجرَّد التوهمات الواهية والتخيلات الباردة ". وقال شيخ الإسلام الشوكاني في " البدر الطالع " في ترجمة علي بن محمد بن أبي القاسم المذكور: " ولكنه لما اجتهد السيد محمد بن إبراهيم، ورفض التقليد، وتبحر في المعارف، قام عليه صاحبُ الترجمة في جملة القائمين عليه، وترسل عليه برسالة تَدُلُّ على عدم إنصافه، ومزيد تعصبه سامحه الله ".
مع أن جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم كان من المعجبين بتلميذه الإمام محمد بن إبراهيم، وكان يحُثُّ طلبة العلم على الأخذ عنه، وُيثني على علمه ونبوغه كما وصف ذلك أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه " الفضائل " بقوله: ولقد حكى لنا السيدُ الإمام علي بن أبي القاسم -وكان من أجل مشايخه سئل عنه- وكان في نفسه عليه ما يقع في نفوس العلماء فقال: "هو أذكى الناس قلبًا، وأزكاهم لُبًا كأنَّ فؤاده جذوةُ نار تتوقد ذكاءًا، وغيرُه أكبرُ منه سنًا ومثله وأصغر من علماء زمانه المصنفين لم يبلغوا هذا المحل، إنما غايةُ اجتهادهم أن يقولوا: هذا أولى، لأنه حاظر، والحظر أقدم من
_________
(١) هو محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير كان عالمًا مبرزًا في علوم العربية، وله معرفة قوية بالأنساب وله خط جميل.
مولده بصعدة في شعبان سنة ٨١٠ ووفاته في حدة سنة ٨٩٧.
1 / 20
الإباحة، أو عام ومعارِضُه خاص، أو مطلق ومعارضه مُقَيَّد ونحو ذلك" (١).
ورغم هذا الثناء والتقدير من شيخه، فإنه قد تحوَّل من مادح إلى قادح، ومن صديق إلى كاشح، ومن مُعجبٍ به وبعلمه ونبوغه إلى مسفِّهٍ له، ومنفرٍ للناس عنه مما آلم الإمام الوزير وأحزنه، فقال معاتبًا شيخه:
عَرَفْتَ قدْرِي ثُم أنكَرتَهُ ... فما عدا بالله مما بدا؟
في كل يوم لك بي موقف ... أَسرَفْتَ بالقَوْل بسُوء البَدَا
أمْسِ الثنَا واليومَ سوءُ الأذى! ... يا لَيْتَ شِعري كيف تضحي غدَا؟
يَا شيْبة العتْرةِ في وَقْتهِ ... ومَنْصِبَ التعْلِيمِ والاقْتدَا
قَد خلَعَ العِلْمُ رداء الهُدَى ... علَيْكَ، والشيْبُ رِداءَ الرَّدَى
فَصُنْ رِدَائَيكَ وطَهرْهُما ... عَنَ دنسِ الإسْراف والإعتدَا
وقد ردَّ الإمام محمد بن إبراهيم الوزير على رسالة شيخه بكتابه " العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم " الذي يُعد ذخيرةً نفيسةً في عالم المؤلفات الإسلامية لم يَسْبِقْ لأحد في المتقدمين، ولا في المتأخرين أن ألف في موضوعه مثله.
وقد وصف ما حدث له مِن علماء زمانه المتمسكين بالمذهب، والمجاهرين بمعاداته لتمسكه بالسنة النبوية بقوله " وإني لما تمسكتُ بعروة السنن الوثيقة، وسلكتُ سنَن الطريقة العتيقة، تناولتني الألسنةُ البذيئة من أعداء السنة النبوية، ونسبوني إلى دعوى في العلم كبيرة، وأمورٍ غير ذلك كثيرة حرصًا على ألا يُتَبَّع (٢) ما دعوتُ إليه من العمل بسنة سيد المرسلين،
_________
(١) الفضائل.
(٢) وهذا هو ما جرى للإمام المقبلي، فقد حُورب حتى اضطر إلى بيع بيته وماله، وهاجر بأهله إلى مكة المكرمة. وجرت وقائع مماثلة للبدر محمد بن إسماعيل الأمير، ولشيخ الإسلام الشوكاني، وقد ذكر ما حدث له في كتابه " أدب الطلب ".
1 / 21