بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على ما أنعم، والشكر له على ما ألهم، والصلاة على باعث إيجاد العالم، محمد سيد العرب والعجم، وعلى المعصومين من أهل بيته سادات الأمم، صلى الله عليه وعليهم وسلم.
وبعد، يقول الأذل الأحقر، أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر، سامحهم الله يوم العرض الأكبر: هذا ما استطرفته من " عوائد الأيام " من مهمات أدلة الأحكام، وكليات مسائل الحلال والحرام وما يتعلق بهذا المرام.
جعلته تذكرة لنفسي، ولمن أراد أن يتذكر من إخواني، وما توفيقي إلا بالله.
Shafi 3
عائدة (١) في بيان قوله تعالى:
أوفوا بالعقود قال الله سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/5/1" target="_blank" title="المائدة: 1">﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾</a> (1).
قد اشتهر عند الفقهاء الاستدلال بهذه الآية الكريمة، في تصحيح العقود، و لزومها. وبه يجعلون الأصل في كل عقد عرفي، وكل إيجاب وقبول، اللزوم.
واستشكل جماعة في دلالتها، فاللازم تحقيق مدلولها، حتى يعلم دلالتها، و عدمها.
ونذكر أولا: طائفة من كلام المفسرين، واللغويين في تفسير الآية، ومعنى العقد والعهد.
قال صاحب الكشاف في تفسيرها: يقال وفى بالعهد، وأوفى به، ومنه (والموفون بعهدهم) (2) والعقد: العهد الموثق، شبه بعقد الحبل ونحوه، ومنه قول الحطيئة:
Shafi 5
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم * شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا (١) وهي: عقود الله التي عقدها على عباده، وألزمها إياهم، من مواجب التكليف. وقيل: هي ما يعقدون بينهم من عقود الأمانات، ويتحالفون عليه، و يتماسحون من المبايعات ونحوها.
والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه، من تحليل حلاله، وتحريم حرامه، و أنه كلام قدم مجملا، ثم عقب بالتفصيل، وهو قوله: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/5/1" target="_blank" title="المائدة: 1">﴿أحلت لكم﴾</a> (2) (3).
انتهى.
أقول: الظاهر اتحاد ما جعله ظاهرا مع ما ذكره أولا، ويحتمل أن يكون مراده من الأول: ما اختص بالواجبات من التكاليف، وما أوجب عليهم فعله. وما جعله ظاهرا يكون أعم.
ومراده من عقود الأمانات: عهودها من الودايع المالية وغيرها من أسرارهم التي يأتمنون فيها بعضهم بعضا.
والتخصيص بما يتحالفون عليه، لحصول الشد والاستيثاق المأخوذين في معنى العقد.
والمراد بالتماسح، المصافقة، حيث كانت ذلك في المبايعات (4) لشدها و استيثاقها. فمراد القائل: العهود التي تكون للزوم عرفا.
وقال الشيخ أبو على الطبرسي في مجمع البيان: يقال: وفى بعهده وفاء، و أوفى إيفاء، بمعنى.
Shafi 6
ثم قال: والعقود: جمع عقد، بمعنى المعقود، وهو أوكد العهود. والفرق بين العهد والعقد: أن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد، ولا يكون إلا بين متعاقدين، والعهد قد ينفرد به الواحد. إلى أن قال: (أوفوا بالعقود) أي بالعهود، عن ابن عباس، وجماعة من المفسرين. ثم اختلف في هذه العهود على أقوال:
أحدها: أن المراد بها: العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة، والمؤازرة، والمظاهرة، على من حاول ظلمهم، أو بغاهم سوءا. وذلك هو معنى الحلف، عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك، والسدي.
وثانيها: أنها العهود التي أخذ الله سبحانه على عباده للإيمان به (١)، وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم، عن ابن عباس [أيضا. و] (٢) في رواية أخرى قال: هو ما أحل وحرم، وما فرض، وما حد في القرآن كله (أي: فلا تتعدوا فيه ولا تنكثوا) (٣).
ويؤيده قوله تعالى: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) إلى قوله تعالى: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/13/13" target="_blank" title="الرعد 13">﴿سوء الدار﴾</a> (4).
وثالثها: أن المراد بها: العقود التي يتعاقدها الناس بينهم، ويعقدها المرء على نفسه، كعقد الأيمان، وعقد النكاح، وعقد العهد، وعقد البيع، وعقد الحلف، عن ابن زيد، وزيد ابن أسلم.
ورابعها: أن ذلك أمر من الله سبحانه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم بالعمل (5) بما في التورية والإنجيل في تصديق نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما جاء به من عند
Shafi 7
الله، عن ابن جريح، وأبي صالح.
وأقوى هذه الأقوال قول ابن عباس: أن المراد بها عقود الله، التي أوجبها على العباد في الحلال والحرام والفرائض والحدود.
ويدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر، فيجب الوفاء بجميع ذلك إلا ما كان عقدا في المعاونة على أمر قبيح، فإن ذلك محظور بلا خلاف (1). انتهى.
ومثله قال الطريحي في مجمع البحرين (2).
أقول: مراده من قول ابن عباس، الذي جعله أقوى، هو الذي نقله عنه منفردا، وهو القول الثاني. ووجه دخول الرابع فيه ظاهر.
وأما وجه دخول الأول: فلأنه العهد على النصرة على من حاول ظلمهم، و كانوا يحلفون عليه، كما يدل عليه قوله: وهو الحلف.
ولا شك أن النصرة على من ظلم وبغى سوء، مما أوجبه الله سبحانه، سيما مع الحلف عليه، فإنه أمر راجح شرعا، بل واجب، فيجب بالحلف.
ووجه دخول الثالث: أن المراد (3) ليس كل عقد يعقده المرء على نفسه و لو اختراعا، بل العقود المجوزة شرعا، المرخص فيها بلسان الشرع، مثل البيع والنذر، والنكاح، واليمين، كما يدل عليه تصريحه بدخوله في قول ابن عباس، فإنه صرح بأن قول ابن عباس هو عقود الله التي أوجبها على العباد، ولا شك أن ما يخترعه المرء ليس كذلك. ويشعر بذلك أيضا أمثلته التي ذكرها للثاني (4).
Shafi 8
وأما الاستثناء الذي ذكره بقوله: " إلا ما كان عقدا في المعاونة على أمر قبيح " فهو غير مناف للتخصيص بالعقود المرخص فيها من الشرع، لأن فيها أيضا ما يكون كذلك، كالبيع للظلمة، وبيع الخمر وآلات اللهو، والنذر في المعاصي وأمثالها، فإن المراد حينئذ: المرخص نوعها في الشرع.
فإن قلت: قوله سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي /القرآن-الكريم/70/70" target="_blank" title="المعارج 70">﴿والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون﴾</a> (1) يدل على حسن الوفاء لكل عهد، وإن كان مما يخترعه العباد، فهو أيضا يكون من عهود الله سبحانه.
قلنا: المستفاد منه حسن الوفاء بكل عهد، الذي لا كلام فيه، فيكون عهد (2) الله سبحانه حسن الوفاء، فيجب الوفاء بذلك العهد (3)، أي اعتقاد حسنه، فيكون كعهده (4) في سائر المستحبات، فيدل المراد (5) على وجوب الوفاء بهذا العهد من الله، ولازمه حسن الوفاء بكل عهد ولو كان مخترعا، لا وجوبه.
ومن ذلك يظهر: أن ما جعله أقوى لا يدل على صحة كل عقد يخترعه العباد بينهم أيضا، بل يدل على وجوب الوفاء بكل عقد عقده الله سبحانه، فلو كانت صحة كل عقد اخترعوه أيضا ثابتة من الله بغير هذه الآية، تدل تلك الآية (6) على وجوب الوفاء بمقتضاه (7)، لا أن هذه الآية تكون دالة على صحته.
وقال البيضاوي: الوفاء: هو القيام بمقتضى العقد، وكذلك الايفاء.
والعقد: العهد الموثق.
Shafi 9
ثم نقل شعر الحطيئة المتقدم، فقال: وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال. ولعل المراد بالعقود: ما يعم العقود التي عقدها الله سبحانه على عباده، و ألزمها إياهم من التكاليف، وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات، والمعاملات، و نحوها مما يجب الوفاء به، أو يحسن، إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب (1). انتهى.
ويحتمل أن يكون مراده من " ما يعقدون بينهم " العقود المرخصة فيها شرعا.
وقال الراغب على ما نقل عنه: العقود: باعتبار المعقود والعاقد ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين عباده، وعقد بين الله ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر. إلى أن قال: وظاهر الآية يقتضى كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبا (2).
وقال في الصافي بعد ذكر الآية: القمي عن الصادق (عليه السلام): أي بالعهود (3).
أقول: الإيفاء والوفاء بمعنى، والعقد: العهد الموثق، ويشمل ها هنا كل ما عقد الله على عباده، وألزمه إياهم، من الإيمان به وملائكته (4) وكتبه ورسله و أوصياء رسله، وتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والإتيان بفرائضه وسننه، و رعاية حدوده وأوامره ونواهيه، وكل ما يعقده المؤمنون على أنفسهم لله، وفيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات الغير المحظورة.
والقمي عن الجواد (عليه السلام): " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عقد عليهم لعلى (عليه السلام) بالخلافة في عشرة مواطن، ثم أنزل الله (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين (عليه السلام). (5) انتهى.
Shafi 10
وقال المحقق الأردبيلي في آيات الأحكام: " الوفاء والإيفاء: القيام بمقتضى العقد والعهد، والعقد: العهد المشدد بين اثنين فكل عقد عهد، دون العكس.
لعدم لزوم الشدة والاثنينية.
ثم قال بعد نقل كلام صاحب الكشاف: ويحتمل كون المراد: العقود الشرعية الفقهية، ولعل المراد أعم من التكاليف والعقود التي بين الناس و غيرها كالإيمان، فالإيفاء بالكل واجب، فالآية دليل وجوب الكل، فمنها يفهم أن الأصل في العقود اللزوم (1). انتهى.
وقال في القاموس في معنى العقد: عقد الحبل والبيع، والعهد، يعقده:
شده وعنقه إليه لجأ، والحاسب حسب، والعقد: الضمان، والعهد، والجمل الموثق الظهر.
وقال في معنى العهد: العهد: الوصية، والتقدم إلى المرء في الشئ، والموثق، واليمين، وقد عاهده، والذي يكتب للولاة، من عهد إليه أوصاه، والحفاظ، ورعاية الحرمة، والأمان، والذمة، والالتقاء، والمعرفة، ومنه عهدي فيه بموضع كذا (2). وقريب منه في الصحاح (3) وغيره (4).
ومن جميع ما ذكرنا ظهر: أنه يلزم في العقد: الاستيثاق والشد، وأن للعهد معاني متكثرة، وأن المعاني التي ذكروها للعقود في الآية هي ستة، بل ثمانية:
الأول: مطلق العهود.
والثاني: عهود أمير المؤمنين (عليه السلام).
والثالث: عهود الجاهلية على النحو المتقدم.
Shafi 11
والرابع: العقود التي بين الله سبحانه وبين عباده، إما التكاليف والواجبات خاصة، أو مطلق ما حده وشرعه لهم.
والخامس: العقود التي بين الناس، والمراد منها يحتمل أن يكون: العقود المتداولة بينهم، المقررة لهم من الشرع، أي: العقود الفقهية، وأن يكون مطلقها ولو كان باختراعهم.
والسادس: جميع ذلك.
ثم إن فقهائنا الأخيار - رحمهم الله - في كتبهم الفقهية بين تارك للاستدلال بتلك الآية، لزعم إجمالها.
وبين حامل لها على المعنى الأعم، فيستدل بها على حلية كل ما كان عقدا لغة أو عرفا، وترتب ثمرته التي أرادها واضعوه، إلا ما خرج بدليل، بل على لزوم الوفاء بالجميع (1).
وبين حامل لها على العقود المتداولة في الشريعة، من البيع، والنكاح، والإجارة، والصلح، والهبة، والمزارعة، والمساقاة، والسبق، والرماية، وغيرها مما ذكرها الفقهاء، فيستدل بها على إثبات هذه العقود، ويتمسك بها في تصحيح هذه إذا شك في اشتراط شئ فيها، أو وجود مانع عن تأثيرها، ونحو ذلك، لا تصحيح عقد برأسه (2).
ومنهم من ضم مع العقود المتداولة، سائر ما عقده الله سبحانه على عباده أيضا، فحمل الآية على كل ما عقده الله سبحانه، سواء كان من العقود المتداولة أو غيرها، وهو كسابقه في محط الاستدلال.
ويظهر من بعضهم أيضا احتمال حملها على العقود التي يتعاقد الناس بعضهم مع بعض مطلقا، سواء كان من العقود المتداولة في الكتب الفقهية أم لا.
Shafi 12
ومحط الاستدلال حينئذ كالأول.
ثم إن منهم من يفسر الأمر بالإيفاء على لزوم نفس العقد ووجوب الالتزام به (1)، إلا إذا تحقق ما يرفع لزومه شرعا، فيكون منافيا لجواز العقد. (2) ومنهم من يفسره بالعمل على مقتضى العقد ما دام باقيا، فلا ينافي كون بعض العقود جائزا، كالشركة، والمضاربة، ونحوهما (3).
ومنهم من يفسره بوجوب اعتقاد لزوم اللازم وجواز الجائز (4).
ومنهم من حمله على الرخصة ونفى الحظر (5).
وبعض هذه الوجوه في الإيفاء مختص ببعض محامل العقود.
وتوضيح المقام: أن الآية الشريفة على ما هو نظر الفقهاء يحتمل وجوها:
الأول: أن يكون المراد بالعقود العموم (6)، والأمر بالإيفاء لوجوب القيام بالمعقود دائما حتى يرد المزيل الشرعي، فتدل الآية على وجوب العمل على مقتضى كل عقد يعقدونه، مطابقا لحكم العقل بحسن الوفاء بالعهد (7)، فيكون إيجابا للوفاء بكل عهد وشرط، إلا ما خرج بالدليل.
فيكون معنى الآية: أنه يجب الوفاء بكل عهد موثق بينكم وبين الله، كالنذر وأشباهه، أو من الله إليكم، كالإيمان به المعهود في عالم الذر و بعده، وأداء أمانة التكليف التي حملها الإنسان، أو بين أنفسكم، بعضكم مع بعض، كالبيع وأشباهه، أو بين أنفسكم مع أنفسكم، كالالتزامات
Shafi 13
على النفس من غير جهة النذر.
فيكون الأصل وجوب الوفاء بكل عهد موثق، خرج ما خرج بالدليل، كالشركة، والمضاربة، ومثلهما، فإنها وإن كانت صحيحة بسبب الإجماع، أو قوله تعالى: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/4/4" target="_blank" title="النساء 4">﴿تجارة عن تراض﴾</a> (1) وداخلة تحت عموم الآية، إلا أنها ليست بلازمة بالدليل الخارجي.
وكالمغاوسة وشركة الوجوه والأبدان، فإنها محظورة رأسا من الخارج.
فكل ما يندرج في تجارة عن تراض، يثبت صحته منه ولزومه بتلك الآية. و ما لا يندرج فيه، يثبت صحته ولزومه معا بها، بل يثبت الصحة واللزوم في جميع العقود بهذه الآية، خرج ما خرج من الصحة واللزوم، وبقى الباقي.
وعلى هذا الاحتمال لا يجب تتبع أحوال العرف في كل عقد، في أن بنائهم فيه على اللزوم أو الجواز. وتثمر الآية في العقد المجهول الحال بخصوصه شرعا أو عرفا، ويثبت منها أصل الرخصة والإيجاب واللزوم، إلا أن يثبت المنع من الخارج.
الثاني: أن يكون المراد بالعقود: العموم، ويكون المراد بالإيفاء: وجوب القيام بمقتضى العقد والعهد ما دام المتعاقد أو العاهد (2) - إذا كان واحدا - باق على العهد، فما لم يرجعا أو أحدهما، يكون الوفاء واجبا. ومع رجوعهما أو أحدهما وفسخ العهد، يرتفع الوجوب.
وذلك كما في الشركة مثلا، فإن المرءين إذا اشتركا في رأس مال (3)، وشرطا أن يكون الربح بينهما بالمناصفة، فإن أصل العقد وإن كان جائزا يجوز لكل منهما الرجوع، إلا أنهما ما لم يرجعا يجب عليهما الوفاء بالشرط. وعلى هذا فلا تفيد الآية لزوم العقد بالمعنى المتعارف وإن أفادت صحة كل عقد.
Shafi 14
الثالث: أن يكون المراد بالعقود: العموم، ويكون المراد بالإيفاء: وجوب العمل بمقتضى العقد، بمعنى: اعتقاد لزوم اللازم، وجواز الجائز، وحلية الحلال، وحرمة الحرام. وعلى هذا فيكون المراد: أن ما بينا لكم جوازه من العقود، وميزنا (1) اللازمة منها من الجائزة، والراجحة من المرجوحة، فأوفوا بها على مقتضاها، فاعتقدوا لزوم اللازمات، واعملوا بمقتضاها، وجواز الجائزات، واعملوا بمقتضاها، وما لم يتبين لكم من العقود التي بينكم، فما يقتضيه العرف من اللزوم والجواز، فاعملوا فيها كذلك. فيكون الأمر بالنسبة إلى العقود المعلومة حالها شرعا من باب الإرشاد والأمر بالمعروف، وبالنسبة إلى غيرها من باب التأسيس والتقرير، على ما هو مقتضى العقد عندهم، فيجب حينئذ تتبع أحوال العرف، وأن أي عقد عندهم لازم، وأيا منه جائز.
الرابع: أن يكون المراد بالعقود: العقود التي يتعاقدها الناس بينهم، سواء كانت من العقود المنصوصة في الشرع، أو غيرها.
ويكون المراد بالأمر بيان الصحة، وترتب الثمرة التي كانت منظورة للمتعاقدين. يعنى، كل ما تتعاقدون عليه بينكم فقد أجزته، ورتبت عليه الثمرة التي يريدونها منه، فصار شرعيا.
فيكون الأمر من باب دفع الخطر، وإثبات محض الرخصة، وجواز ما يفعلون. ويكون في العقود المجوزة شرعا بخصوصها من باب التأكيد، أو التناسي، وفي غيرها من باب التأسيس.
ويلزمه أن يصير كل ما كان عندهم على وجه اللزوم لازما، وعلى وجه الجواز جائزا. وهذا أيضا يحتاج إلى تتبع أحوال العرف في اللزوم والجواز فيما يعلم حاله من الشرع.
الخامس: أن يكون المراد بالعقود: العقود التي يتعاقدها الناس، غير العقود
Shafi 15
المتداولة الفقهية، ويكون المراد بالأمر ما ذكر في الرابع.
السادس: أن يكون المراد: العقود الفقهية، والأمر للزوم (١)، ويكون المعنى: أن ما جوزناه لكم، وحللناه، ورتبنا عليه الثمرة من العقود، يجب عليكم الوفاء بمقتضاه، مثل أن عقد البيع صححه الشارع، وجوزه، ورتب عليه الثمرة التي أرادها بقوله: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/2/2" target="_blank" title="البقرة 2">﴿أحل الله البيع﴾</a> (٢). ومثل عقد المضاربة الذي جوزه بقوله: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/4/4" target="_blank" title="النساء 4">﴿تجارة عن تراض منكم﴾</a> (3).
ثم قال: أوفوا به، يعنى: يجب الوفاء على مقتضاه من الفعل، بمعنى استمرار ملكية الطرفين لما ملكاه، فهذا يثبت اللزوم في جميع العقود المجوزة.
السابع، والثامن، والتاسع: أن يكون المراد بالعقود: أحد الثلاثة الأخيرة، و بالامر: العمل بمقتضى العقد ما كان باقيا، فلا يثبت اللزوم.
العاشر: أن يكون المراد: العقود الفقهية، ويكون المراد بالوفاء: اعتقاد اللزوم في اللازمات، والجواز في الجائزات.
ومما ذكرنا تظهر احتمالات أخر أيضا.
ثم لا يخفى: أن استدلال الفقهاء بتلك الآية، إما يكون لتصحيح عقد برأسه، وجعله لازما، أي: ما كان عقدا ولم يبلغ من الشرع صحته ولزومه بخصوصه. وهذا عند من يقول ببقاء العقود على العموم المطلق، أو بحمله على جميع ما يعقده الناس بينهم مطلقا.
أو يكون في تصحيح العقود الشرعية خاصة إذا شك في شرطية شرط، أو مانعية مانع. أو يكون في إثبات أصالة اللزوم في العقود الشرعية خاصة. وهذان عند من يخصص العقود بالشرعية.
واستشكل الأول: باستلزامه خروج الأكثر، إذ أكثر ما يسمى عقدا مما
Shafi 16
لا يجب الوفاء به إجماعا، والباقي في جنب المخرج كالمعدوم.
وأجيب عنه، بأن لزوم تخصيص الأكثر إنما هو لو سلمنا أكثرية العقود غير المتداولة في الشرع، وإنما هو إذا أريد بعموم العقود العموم النوعي ، وهو خلاف التحقيق، بل المراد هو العموم الأفرادي، فإذا لوحظت الأفراد، فلا ريب أن أفراد العقود المتداولة أكثر من أفراد غيرها، سيما في مثل البيع والإجارة والنكاح.
واستشكل الثاني: بأنه لو خصت العقود بتلك العقود المتداولة، فلا بد من أن تكون هي العقود المتداولة في زمان الشارع، وكل ما انتفى فيه شئ محتمل الشرطية، أو وجد فيه محتمل المانعية، لا يعلم كونه من العقود المتداولة في ذلك الزمان، فلا يصح التمسك بالآية في موضع من المواضع، ولا في خصوص إثبات لزوم بعض ما يعلم لزومه خارجا أيضا، وهذا مخالف لسيرة العلماء، وطريقتهم المسلوكة بينهم، بلا خلاف يظهر بينهم في ذلك أصلا، من جهة استنادهم إليها في محل النزاع والوفاق.
وأجيب عنه: بأن الألف واللام للعهد، والإشارة إلى جنس العقود المتداولة في ذلك الزمان، المعهودة المضبوطة الآن في كتب فقهائنا، كالبيع والإجارة و نحو ذلك، لا خصوص أشخاص كل عقد عقد متداول فيه، مع كيفياتها المخصوصة والمتداولة فيه. ولا ريب في أن مواضع استدلالاتهم بتلك الآية الشريفة داخلة في جنس تلك العقود وفى أفرادها وإن جهل اشتراكها معها في الخصوصيات، وذلك لا يقدح في دخولها في تلك العقود (1).
نعم يرد على الثاني: أنه لم يثبت حقيقة شرعية في العقد، والأصل عدم المخصص، فيجب إبقاؤه على المعنى اللغوي.
ثم نقول: إن ما تقدم في معنى الأمر بالوفاء - سوى التزام (2) ما عقدوا، و
Shafi 17
عاهدوا عليه، ووجوب العمل بما تعاهدوه - لا يخلو عن تجوز في هيئة الأمر أو مادته. فتعين حمله على وجوب العمل بما عهدوا إليه، الذي هو معنى لزوم العقد. فيثبت بالآية أصالة لزوم كل ما يصدق عليه العهد والعقد لغة أو عرفا إلا ما خرج، ويصح تصحيح العقد برأسه وجعله لازما بها. وكذا التمسك بصحة ما شك في شرطه أو وجود مانعه ولزومه. وكذا التمسك بلزوم ما علم صحته شرعا وشك في لزومه.
فيقال: إنه يحكم بلزوم عقد المعاوضة مثلا لو لم نقل بدخوله في البيع، و عقد الصلح الابتدائي لو خصصنا الصلح الوارد في الأخبار بما كان لرفع التنازع، كما يدل عليه تعريفهم للصلح، وعقد إسقاط حق غير مالي، كحق الرجوع في الطلاق مثلا بعوض شئ آخر، وعقد المبايعة بالفارسية أو المضارع لو لم نقل بكونه بيعا عرفا، أي: لو لم نقل بثبوت معنى البيع (1) عرفا، واقتصرنا فيه على موضع الإجماع.
وكذا يحكم بلزوم ما كان من العقود المتداولة، ولكن شك في انتفاء شرطه، أو وجود مانعه، كعقد البيع بالفارسية إذا قلنا بكونها بيعا عرفا.
وكذا يحكم بأصالة لزوم جميع العقود المجوزة في الشرع، كالإجارة، والمراهنة، والمزارعة، والشركة، والمضاربة، ما لم يعلم جوازه من الخارج.
وهذا بخلاف ما لو خصت بالمتداولة، فإنه يمكن الاستدلال بالآية في الأخير خاصة، أو مع الثاني بالتقريب المتقدم في دفع الإشكال الوارد على الطائفة الثانية.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في تتميم الاستدلال بالآية الكريمة في لزوم جميع العقود في المطالب الفقهية.
ومع ذلك ففي صحة التمسك به كلام من وجوه:
Shafi 18
الأول: أنه وإن كان مقتضى الجمع المحلى باللام كونه مفيدا للعموم، ولكن يخدشه في الآية أمران:
أحدهما: أنا قد ذكرنا في كتبنا الأصولية (1): أن الثابت من أصالة الحقيقة إنما هو إذا لم يقترن بالكلام - حين التكلم به - ما يوجب الظن بعدم إرادة الحقيقة، أي لم يقترن به ما يظن كونه قرينة للصرف عن الحقيقة، بل لم يقترن ما يصلح لكونه قرينة.
ومما لا شك فيه: أن تقدم طلب بعض أفراد الماهية أو الجمع المحلى على الطلب (2) باللفظ الدال على الماهية، أو بالجمع (3)، مما يظن معه إرادة الأفراد المتقدمة، ولا أقل من صلاحية كونه قرينة لإرادتها، ألا ترى أنه إذا قال مولى - في داره عشرون بيتا، وله عشرون ثوبا - لعبده: اكنس كل يوم البيت الفلاني، والفلاني، والفلاني، إلى خمسة بيوت مثلا، واغسل كل يوم الثوب الفلاني، والفلاني، إلى خمسة أثواب، ثم قال له في يوم: اكنس البيوت واغسل الثياب، ثم اذهب إلى السوق، يظن، بل يفهم إرادة البيوت والثياب المعهودة، دون العموم.
وعلى هذا فنقول: إن تلك الآية في سورة المائدة، وهي على ما ذكره المفسرون آخر السور المنزلة (4) في أواخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (5)، ولا شك أن قبل نزولها قد علم من الشارع وجوب الوفاء بطائفة جمة من العقود، كالعقود التي بين الله سبحانه وبين عباده، من الإيمان به وبرسله وكتبه، والإتيان بالصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وغيرها، بل بعض العقود التي بين الناس بعضهم مع
Shafi 19
بعض، كالبيع والنكاح والإجارة والرهن وأمثالها.
وتقدم طلب الوفاء بتلك العقود يورث الظن بإرادتها من قوله: (أوفوا بالعقود) خاصة، أو يصلح قرينة لإرادتها، فلا يمكن التمسك بأصالة الحقيقة في إرادة جميع الأفراد من الجمع المحلى. مضافا إلى أن قوله تعالى: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/5/5" target="_blank" title="المائدة 5">﴿وأحلت لكم بهيمة الأنعام﴾</a> (1) إلى آخره، تفصيل لبعض العقود أيضا كما مر في كلام بعض المفسرين (2) وهذا أيضا مما يضعف الحمل على العموم.
وثانيهما: أنه إذا ورد أمر بطلب شئ لم يرد طلبه أولا، يكون هذا الأمر الوارد للتأسيس وإذا أمر به أولا، ثم ثانيا، يكون الثاني للتأكيد. ولو ورد أمر بطلب بعض أفراد عام أولا، ثم ورد أمر آخر بطلب ما ظاهره العموم، يجب أن يحمل على التخصيص بما طلب أولا حتى يكون تأكيدا، أو بغيره حتى يكون تأسيسا.
وأما حمله على العموم - فيكون تأسيسا وتأكيدا معا - فغير جائز، كما في استعمال المشترك في معنييه، لأن كل ما يدل على عدم جوازه، يدل على عدم جوازه أيضا. ولا شك أنه كان وجوب الوفاء بعقود كثيرة معلوما قبل نزول تلك الآية، فلا يمكن حملها على العموم، إلا أن يحمل على باب التناسي، ولكنه وإن كان جائزا، إلا أنه أيضا خلاف الأصل، كالتخصيص في العقود، فترجيح أحدهما يحتاج إلى دليل، فتأمل.
الثاني: أنه قد عرفت اتفاقهم على اشتراط الاستيثاق والشدة (3) في معنى العقد، وأنه العهد الموثق، وهو المفهوم من لفظ العقد، فلو أبقينا العقود على العموم أيضا، لما دل إلا على وجوب الوفاء بالعهود الموثقة، لا كل عهد، ففي كل عهد يراد إثبات لزومه شرعا لا بد أولا من إثبات استحكامه واستيثاقه وشدته،
Shafi 20
ولا يثبت ذلك إلا بعد ثبوت اللزوم الشرعي، لمنع كون غير ما ثبت لزومه شرعا موثقا.
فلا يمكن الاستدلال بالآية إلا في التمسك بنفي الاشتراط أو المانعية، فيما كان فردا من العقود اللازمة، لا مطلقا، وهذا يكفي فيه أصالة الاشتراط والمانعية، من غير حاجة إلى التمسك بالآية.
ولو جوزنا حصول التوثيق بغير الشرع أيضا، وقلنا بكفاية التوثيق العرفي، فلا يفيد فيما هم بصدده أصلا، لأنهم يريدون إثبات لزوم مثل قول المتعاقدين:
عاوضت فرسي مع بقرك، من الموجب، وقبلت المعاوضة، من القابل، لو لم نقل بكونه بيعا. ومثل إيجاب إسقاط حق الرجوع بعوض، أو صلحه لو لم ندرجه في عموم الصلح، وأمثال ذلك. ونحن لا نسلم التوثيق في أمثال ذلك عرفا لولا اللزوم الشرعي، بل هو نفس العهد وتوثيقه. وصيرورته عقدا إنما يكون باقتران أمر آخر معه يوجب توثيقه شرعا أو عرفا، ومع ثبوت الشرعي لا احتياج إلى التمسك بالآية.
ولا يتوهم: أن بناء المتعاهدين (1) وقصدهم عدم الرجوع، وتكلمهم بلفظ قاصدا منه البقاء على مقتضى العهد يكون توثيقا له.
لأن ذلك هو العهد، إذ ما لا يقصد فيه الإتيان به البتة ليس عهدا، فحصول التوثيق يحتاج إلى أمر آخر، وعلى المستدل إثبات التوثيق عرفا.
الثالث: أن بعد ما علمت من اتفاقهم على كون العقد هو العهد الموثق، أقول:
قد عرفت أن للعهد معاني متكثرة، كالوصية، والأمر، والضمان، واليمين، وغير ذلك، وشئ منها لا يصدق على ما هم بصدد إثبات لزومه أو صحته في المباحث الفقهية.
Shafi 21
ولو سلمنا أن للعهد معنى يلائم ذلك أيضا، فإرادة ذلك المعنى من العهد - الذي هو معنى العقد في الآية - غير معلوم، بل لا سبيل إلى إثباته.
فيمكن أن يكون المراد من العقود: الوصايا الإلهية الموثقة، أي المشددة في ثبوتها، أي التكاليف اللازمة، فإنها وصايا منه سبحانه إلى عباده، كما ورد في الآيات المتكثرة، كقوله سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/29/29" target="_blank" title="العنكبوت 29">﴿ووصينا الإنسان بوالديه حسنا﴾</a> (١ ) و <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/42/42" target="_blank" title="الشورى 42">﴿ما وصى به نوحا... وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى﴾</a> (2) إلى غير ذلك.
ويمكن أن يكون المراد منها: مطلق الوصايا ويمكن أن يكون منها:
الأوامر، والإيمان، والضمانات.
وبالجملة: إثبات كون المراد من العهود المأخوذ في معنى العقود في الآية معنى يصدق على مثل: عاوضت فرسي ببقرك، أمر مشكل جدا، وبدون ذلك لا يصح الاستدلال بالآية فيما هم بصدده.
الرابع: أنه قد عرفت أن معنى العقد لغة: الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال بينهما، وإذا كان ذلك معناه اللغوي حقيقة، فيكون المراد منه في الآية الشريفة معناه المجازي، وإذا كان كذلك، فتتسع دائرة الكلام ومجال الجدال في التمسك بالآية كما لا يخفى.
ومن جميع ذلك ظهر ضعف التمسك بتلك الآية الشريفة في إثبات لزوم بعض ما يعدونه عقدا في الكتب الفقهية. وحيث انحصر الدليل على أصالة لزوم كل عقد بتلك الآية، فتكون تلك الأصالة غير ثابتة، بل الأصل عدم اللزوم، إلا أن يثبت لزوم عقد بدليل خاص، كالبيع وأمثاله.
وعلى الله التوكل والاعتصام، وعلى نبيه وآله الصلاة والسلام.
Shafi 22
عائدة (٢) في وجوب تعظيم شعائر الله قد تكرر في كتب الفقهاء، الحكم بوجوب تعظيم شعائر الله، وبه يتمسكون في أحكام كثيرة من الوجوب والحرمة، كحرمة بيع المصحف و كتب الحديث من الكفار، ودخول الضرائح المقدسة على غير طهر، وأمثال ذلك.
والأصل فيه: قوله تعالى وسبحانه في سورة الحج بعد ما ذكر طائفة من مناسك الحج: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/22/22" target="_blank" title="الحج 22">﴿ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق﴾</a> (1).
ولا بد في تحقيق معناه من ذكر نبذة من كلام اللغويين والمفسرين في معنى الشعائر وتفسير الآية: فنقول:
قال في القاموس في مادة الشعر: وكسحاب: الشجر الملتف، وما كان من شجر في لين من الأرض، يحله الناس، يستدفئون به شتاء، ويستظلون [به] (2) صيفا، كالمشعر.
Shafi 23