وانفجرنا ضاحكين.
وإلى الصباح التالي ظللنا نضحك ونتذكر ملامحه، وهو ينطقها فتصاب معداتنا بالمغص من فرط ما ننثني ونضحك. وعلى رأي كليلة ودمنة قلنا له في الصباح التالي - وكان تقريبا لا يزال على نفس جلسته وقرفصته وانكماشه على نفسه - وكيف كان ذلك يا أستاذ؟
ولم يكن تبدو عليه سيماء المعتقلين السياسيين. معظمهم كانوا مثقفين، حليقي اللحية والشارب، خريجي أو طلبة جامعات. هذا كان له شارب، أصفر وغزير ومتهدل على شفته العليا يكاد يلامس السفلى. وجهه خشن لا بد من كثرة مزاولته عمله خارج المكاتب والمنازل، حيث الريح والتراب ولفح الشمس. في الحقيقة لم نفاجأ حين قال لنا إنه عمدة. حين تستخرجه من الحالة التي كان عليها، والسكينة التي آلت إليها ملامحه وقوامه، وتفرده، وتوقفه وتعيده سيرته الأولى، ويتبدى لك على حقيقته تجد أنه حقا مصدقا لا بد أنه كان واحدا من أولئك العمد من طراز: اخرس يا ولد. شهم، كريم، يذبح لضيف خروفا، ويسافر إلى آخر الدنيا تلبية لنداء مستغيث. عمدة ومعتقل سياسي. جديدة جدا هذه المرة، والنكتة أن يكون عمدة متهما بالعمل السياسي.
في الليلة التالية ساءت حاله وارتفعت درجة حرارته، وأصبح نبضه 140، وبدا وارم الوجه مختنق السحنة، وكأنما سينفجر بعد قليل، لم يكن هناك بد من أن يفضفض ذلك العمدة المعتقل عن نفسه، وإلا حدث له فعلا ذلك الذي وصفه بأنه أوحش ما في الدنيا ومات.
وتكلم.
متقطع الأنفاس.
أخرج من صديريه البلدي الداخلي علبة سجائر «كرافن» عشرين سيجارة كاملة، وعزم علينا، ولم نصدق أنفسنا، ونحن ننفث دخان الكرافن، وبكل ما نملك وما أصبح لنا من طول بال نصبر على كلماته التي تخرج بعد عناء، ولهاثه بين الكلمات.
تكلم.
بدأها من منتصفها، أو من حيث بدأ يهتم هو بها، لا نعرف. قال: هذا الوغد، يونس بحري، قتلني بالأمس، فعلا قتلني، سأموت، ولكن لن أموت قبل أن أغرس أسناني في زوره، وأقضم حنجرته.
جالسين وفي أمان الله، وبعد يوم شاق من تكسير البازلت، وحمله في المقاطف والسير به نصف كيلو، والصخر فوق أكتافنا والرمل في عيوننا وأفواهنا وأقدامنا العارية ينغرس فيها الشوك والزلط والمسامير، وجلسنا آخر النهار، قبل طابور العودة نستريح، وكانوا ثلاثة ضباط أحدهم هذا الخسيس يونس بحري. ناداني، منذ أن رآني ورأيته وأنا أشفق عليه وعلى نفسي أن يناديني. ناداني. تلكأت، ولكني قلت أقصر الشر وألبي نداءه. ذهبت. وقفت. تركني واقفا واشتبك في حديث فاتر مع زميله. قلت: أفندم. رمقني بنظرة، ثم عاد إلى حديثه الفاتر. اللهم طولك يا روح قلت، وعزمت أن أؤجل أي اشتباك، فجسمي مهدود، ولن أحتمل أي ضرب. والبداية واضح أنها ستنتهي بضرب. أقصر الشر يا ولد، واصبر.
Shafi da ba'a sani ba