أما في نفوسهم فبأخذها، مكرهة أو طائعة، بالتزام ما فيه النجح والتوفيق مع قصد واعتدال، فتختار من الولاة والزعماء والقواد والبطانة من فيهم الغنية والكفاية وحسن البلاء، يبحث عنهم أنى وجدوا، مهما كانت عصبياتهم وخفة ظلهم أو كثافة نفوسهم، ويجعلون في مراكزهم بمعزل عن التغيير والتبديل ما داموا من أوتاد الدولة وأركان الملك.
وأما في ولاتهم، فببعدهم عن جور الرعية وإنصافهم الناس جميعا، فلا يصيبهم من وراء لونهم السياسي أو مذهبهم الديني عسف ولا ظلم.
ولقد سأل الوليد عامله الحجاج، المعروف بعسفه وجبروته، أن يكتب إليه بسيرته، فكتب ما نثبته هنا - وكنا نود أن يكون نبراسا حقا للحجاج وغير الحجاج - قال:
إني أيقظت رأيي، وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته، وقسمت لكل خصم من نفسي قسما يعطيه حظا من نظري ولطيف عنايتي، وصرفت السيف إلى النطف المسيء، والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
وأما في سائر شعبهم، فبأن يستمتعوا بكل ما يرضي العدل والحق مع طمأنينتهم على مالهم وأنفسهم، وأن تكون أبواب الولاة لشكاتهم مفتوحة، وآذانهم لمطالبهم مصغية، وعيونهم لخيرهم ناظرة. وكم تفيد تلك الصفات مع حزم في الولاة!
وهذا زياد بن أبيه كان مع شدته لا يحتجب عن طالب حاجة وإن أتاه طارقا بليل، وهو الذي كانت عقوبته القتل للمدلج، وأخذ المقبل بالمدبر والمقيم بالظاعن. وقد وفق زياد إلى استتباب الأمن في ربوعه حتى قال المدائني: «قدم قادم على معاوية بن أبي سفيان، فقال له معاوية: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم، نزلت بماء من مياه الأعراب، فبينا أنا عليه أورد أعرابي إبله، فلما شربت ضرب على جنوبها وقال: عليك زيادا، فقلت له: ما أردت بهذا؟ قال: هي سدى ما قام لي فيها راع منذ ولي زياد. فسر ذلك معاوية وكتب به إلى زياد.»
قلنا: إن معاوية ومن ضرب على قالبه وغراره فطنوا بثقوب بصائرهم إلى استعمال كل ما فيه القوة والحياة لملكهم من شتى العناصر في أنفسهم وولاتهم وسائر شعبهم، والآن نريد أن ندرس بإيجاز الأسس التي باتباعها تم النجاح في تشييد البيت الأموي، والتي باضطرابها والتنكب عن سنتها وطبيعتها كان ضياعه وفناؤه. (2) اصطناع الأحزاب بالمال
قال ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء: «إن أحمد بن يوسف الكاتب قال لأبي يعقوب الخريمي: مدائحك لمحمد بن منصور بن زياد - يعني كاتب البرامكة - أشعر من مراثيك فيه وأجود! فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بون بعيد.»
واستطرد ابن قتيبة فقال: «وهذه عندي قصة الكميت في مدحه بني أمية وآل أبي طالب، فإنه كان يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجود منه في الطالبيين؛ ولا أرى علة ذلك إلا قوة أسباب الطمع، وإيثار النفس لعاجل الدنيا على آجل الآخرة.»
صدق ابن قتيبة فيما ذهب إليه؛ فإن أثر المال في النفس الإنسانية غير قليل، وإن أثره في اصطناع الأحزاب السياسية لما لا يحتاج إلى تدليل؛ وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
Shafi da ba'a sani ba