198

لم يكتف الفضل بهذا ولا بالكثير من أمثاله مما ينتظر من مثله في مثل تلك الظروف، من نهيه عن ذكر عبد الله المأمون والقاسم بن الرشيد، وحظر الدعاء لهما على شيء من المنابر، بل دس من ذكر المأمون بسوء، وحط من قدره، ولصق به أقبح النقائص والمثالب، ووصمه بأشنع الوصمات والمعايب.

ولم يكتب الفضل بهذا، بل وجه إلى مكة كتابا مع محمد بن عبد الله، أحد سدنة البيت الحرام، فأتاه بالكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما لعبد الله المأمون على محمد الأمين، وكان حظهما من الأمين لما صارا إليه حظ غيرهما من العهود في ذلك العصر، و«المعاهدات» و«قصاصات الورق» في عصرنا الحاضر، فمزقهما وأبطلهما، وأجاز سارقهما.

ثم تعال معي لننظر معا نظرة إنعام وترو في مشاورة المأمون لشيعته، حينما حزبه الأمر، وضاق به السبيل، فهي لعمرك آية في الحكمة والمهارة السياسية.

يقول الطبري: «كان محمد، فيما ذكر، كتب إلى المأمون، قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف عليه، يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان سماها، وأن يوجه العمال إليها من قبل محمد، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره، فلما ورد إلى المأمون الكتاب بذلك كبر ذلك عليه واشتد، فبعث إلى الفضل بن سهل وإلى أخيه الحسن فشاورهما في ذلك، فقال الفضل: «الأمر خطير، ولك من شيعتك وأهل بيتك بطانة، ولهم تأنيس بالمشاورة، وفي قطع الأمل دونهم وحشة، وظهور قلة ثقة، فرأي الأمير في ذلك»، وقال الحسن: كان يقال: «شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته، وتألف العدو فيما لا اكتتام له بمشاروته.»

فأحضر المأمون الخاصة من الرؤساء والأعلام، وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا جميعا له: «أيها الأمير، تشاور في مخطر، فاجعل لبديهتنا حظا من الروية»، فقال المأمون: ذلك هو الحزم، وأجلهم ثلاثا، فلما اجتمعوا بعد ذلك قال أحدهم: «أيها الأمير، قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ مدافعة بمكروه أولهما مخافة مكروه آخرهما»، وقال آخر: «كان يقال، أيها الأمير أسعدك الله: إذا كان الأمر مخطرا فإعطاؤك من نازعك طرفا من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته»، وقال آخر: «إنه كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيبا عنك، فخذ ما أمكنك من هدية يومك؛ فإنك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعا بفساد غدك»، وقال آخر: «لئن خفت للبذل عاقبة، إن أشد منها لما يبعث ألا تأمن الفرقة»، وقال آخر: «لا أرى مفارقة منزلة سلامة، فلعلي أعطى معها العافية»، فقال الحسن: فقد وجب حقكم باجتهادكم، وإن كنت من الرأي على مخالفتكم، قال المأمون: فناظرهم! قال: لذلك ما كان الاجتماع! وأقبل الحسن عليهم فقال: هل تعلمون أن محمدا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ قالوا: نعم، ويحتمل ذلك لما نخاف من ضرر منعه، قال: تثقون بكفه بعد إعطائه إياها فلا يتجاوز الطلب إلى غيرها؟

قالوا: لا، ولعل سلامة تقع من دون ما نخاف ونتوقع، قال: فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما ترونه قد توهن بما بذل منها في نفسه؟ قالوا: ندفع ما يعرض له في عاقبته بمدافعة ما تنجزون في عاجله، قال: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء قبلنا؛ قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من كره يومك، ولا تلتمس هدية يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك، قال المأمون للفضل: ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ قال: «أيها الأمير، أسعدك الله، هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك غدا على مخالفتك؟ وهل يصير الحازم إلى فضلة من عاجل الدعة بخطر يتعرض له في عاقبته؟ بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم»، فقال المأمون: «بل بإيثار العاجلة صار من صار إلى فساد العاقبة في أمر دنيا وآخرة»، قال القوم: قد قلنا بمبلغ الرأي، والله يؤيد الأمير بالتوفيق، فقال: اكتب يا فضل إليه، فكتب».

ويستطرد الطبري بعد ذلك في القول بأن المأمون أملى على الفضل هذا الكتاب ليبعث به إلى أخيه، وهو: «قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سماها، مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إلي، وما أمر رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثره ، غير أن الذي جعل إلي الطرف الذي أنابه لا ظنين في النظر لعامته، ولا جاهل بما أسند إلي من أمره ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة، وعامة لا تتألف عن هضمها، وأجناد لا يستتبع طاعتها إلا بالأموال، وطرف من الإفضال، لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته، وما يحب من لم أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكدته مأخوذه العهد؟ وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع ما كتب بمسألته إلي، ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله».

ألا يجدر بنا - وقد اطلعنا على تلك المشاورة السياسية التي يجوز لك أن تقول عنها، بالنسبة لوقتها وجيلها، وموضوعات وقتها وجيلها: إنها لا تقل في دقتها وحذقها وقوة مناحيها عما يجري حول المائدة الخضراء بين ساسة اليوم - أن نقول: إن المأمون قد حصن بساسة عتاة ومشيرين دهاة.

ثم انظر إلى مبالغة المأمون في حذره، أو مبالغة حزبه في الحيطة والحذر، فقد أثبت المؤرخون أنهم قد وجهوا حراسا من قبلهم على الحدود حتى لا يتركوا للأمين أو لرجاله فرصة الاتصال برعية المأمون، وبالغوا أيما مبالغة في تدبيرهم حتى جاء كما يقول الرواة: «تدبيرا مؤيدا، وعقدا مستحصدا متأكدا، فضمنوا بذلك ألا تحمل رعيتهم على منوال خلاف أو مفارقة».

وهنا لا نرى مندوحة من إثبات ذلك المجهود العظيم الذي بذله الفضل بن الربيع أو الأمين، كيفما شئت التعبير، في استمالة القلوب النافرة من الجماعة المأمونية، فقد كان، والحق يقال، طلق اليدين، ندي الكفين، كثيرة جدواه، وافرة حذياه، عظيمة عطاياه، ولم يأل جهدا في إرسال دعاته وأنصاره لبث الدعوة الأمينية في العامة، وإظهارهم على رجحانها وحقها وعدلها، وإظهار الحجة المفارقة، والدعاء لأهل القوة إلى المخالفة. وكان هؤلاء الدعاة يبذلون المال، ويضمنون للأنصار معظم الولايات والقطائع، وصفوة القول أن تصرف الأمين وجماعته من هذه الناحية كان قريب الشبه بتصرف المأمون وجماعته.

Shafi da ba'a sani ba