وكان الرشيد قد أشرك في سنة 188 هجرية ولده القاسم مع أخويه في ولاية العهد، وجعل من نصيبه العمل على الشام وقنسرين والعواصم والثغور.
وكانت الأمور جارية مجراها الطبيعي آخر أيام الرشيد، ثم شطرا كبيرا من السنة الأولى من خلافة الأمين، إلا ما كان من أشياء طوى عليها المأمون كشحا دربة منه وسياسة، وحصافة وكياسة، وتريثا وتعقلا، وحزامة وتمهلا .
ولم تنقض السنة الأولى من خلافة الأمين حتى كانت الدسائس قد فعلت فعلها، وحتى كانت المنافسة العنيفة بين البطانتين قد بلغت غايتها، وأخذ كل من الأخوين يحذر أخاه ويتقيه، وامتلأت الصدور حفائظ وإحنا، ولم يبق إلا أن تلمس فتنفجر. وسنفصل لك كل ذلك تفصيلا. (2) بيعة الأمين وخلافته
لما خرج رافع
1
بن الليث بن نصر بن سيار بخراسان، وكثف أنصاره، وقويت شكوته، وعظم خطره، رأى الرشيد أن يخرج إليه بنفسه لمحاربته، وتسكين حبل الأمن الذي اضطرب في تلك النواحي، فأصابه من مشاق السفر وتغير الطقس وشدة التفكير ما أعل صحته، وبدا له من ظروف الأحوال ما حمله على تجديد البيعة للمأمون الذي كان بمرو، وأوصى بأن يصير ما معه من قواد وجند وسلاح ومال إلى جانبه، وأخذ المواثيق على من معه بأن يوفوا بهذه الوصية.
ثم أخذت تشتد به العلة حتى وافته منيته بطوس سنة 193 هجرية، وبويع للأمين بالخلافة في عسكر الرشيد، ووصله نعي الرشيد في بغداد يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، وقيل: ليلة النصف من هذا الشهر، فكتم الخبر بقية يومه وليلته، ثم أظهره يوم الجمعة.
ويحدثنا التاريخ أن الأمين لما بلغه اشتداد المرض على الرشيد وتوقع وفاته بعث بكر بن المعتمر رسولا إلى مقر الخليفة ليوافيه بالأخبار كل يوم، وكتب معه كتبا، وجعلها في قوائم صناديق منقورة ألبسها جلد البقر ليخفي أمرها، وكلفه ألا يظهر أحدا على شيء من أمره وما توجه فيه ولو قتل، حتى إذا نفذ أمر الله في الرشيد دفع إلى كل من له كتاب كتابه.
فلما وصل رسول الأمين راب الرشيد قدومه، فسأله عما جاء له، فلما لم يجد في جوابه ما يزيل ريبه أمر بتفتيشه وحبسه. ولعلك تصيب لباب الصواب أو لا تعدوه كثيرا إذا افترضت أن هذا الريب الذي خامره من رسول الأمين كان من العوامل التي حملته على تجديد البيعة للمأمون، وأن يوصي له بما معه من جند وسلاح ومال.
لبث رسول الأمين في الحبس أشهرا؛ إذ تاريخ الكتب التي يحملها إلى من أرسلت إليهم شوال سنة 192ه، ووفاة الرشيد كانت في جمادى الآخرة سنة 193ه، ثم بدا للرشيد أن يحمل بكرا على الإقرار، فكلف الفضل بن الربيع ذلك، وأن يهدده بالموت إذا لم يقر. وقد حالت وفاة الرشيد في ذلك اليوم دون تمام هذا الإقرار، ثم لما وثق الرسول من وفاة الرشيد دفع إلى كل كتابه.
Shafi da ba'a sani ba