أمن المنون وريبها تتوجع
حتى أتسلى بها عن مصيبتي، قال الربيع: فخرجت إلى بني هاشم وهم بأجمعهم حضور، فسألتهم عنها، فلم يكن فيهم أحد يحفظها، فرجعت فأخبرته فقال: والله لمصيبتي بأهل بيتي ألا يكون فيهم أحد يحفظ هذا لقلة رغبتهم في الأدب، أعظم وأشد علي من مصيبتي بابني، ثم قال: انظر هل في القواد والعوام من الجند من يعرفها، فإني أحب أن أسمعها من إنسان ينشدها . فخرجت فاعترضت الناس فلم أجد أحدا ينشدها إلا شيخا كبيرا مؤدبا قد انصرف من موضع تأديبه، فسألته: هل تحفظ شيئا من الشعر؟ فقال: نعم، شعر أبي ذؤيب، فقلت: أنشدني. فابتدأ هذه القصيدة العينية، فقلت له: أنت بغيتي، ثم أوصلته إلى المنصور، فاستنشده إياها، ثم أجازه بمائة درهم. •••
أما التحول العظيم الذي حصل في أبهاء «صالونات» الخلفاء الخاصة بالمنادمة، فالحديث عنه يطول، وحسبك في ذلك ما يدلي به إسحاق بن إبراهيم، أحد المعاصرين العباسيين، فإنه يحدثك بما ينقع الغلة؛ إذ قد سئل عن أحوال الأمويين في الشراب واللهو فتكلم بإيجاز عن حالتهم، وسئل عن العباسيين فوصف وأجاد، وصور وأفاد، قال:
أما معاوية ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان بن محمد، فكان بينهم وبين الندماء ستار، وكان لا يظهر أحد من الندماء على ما يفعله الخليفة إذا طرب للمغنى والتذه، حتى ينقلب ويمشي ويحرك كتفيه ويرقص ويتجرد حيث لا يراه إلا خواص جواريه، إلا أنه كان إذا ارتفع من خلف الستار صوت أو نعير طرب أو رقص أو حركة بزفير تجاوز المقدار، قال صاحب الستار: حسبك يا جارية كفي! انتهي! أقصري! يوهم الندماء أن الفاعل لذلك بعض الجواري، فأما الباقون من خلفاء بني أمية فلم يكونوا يتحاشون أن يرقصوا ويتجردوا ويحضروا عراة بحضرة الخلعاء والمغنين، ومع ذلك لم يكن أحد منهم في مثل حال يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد في المجون والرفث بحضرة الندماء والتجرد ما يباليان ما صنعا.
قلت: فعمر بن عبد العزيز؟ قال: ما طن في سمعه حرف غناء منذ أفضت الخلافة إليه إلى أن فارق الدنيا، فأما قبلها، وهو أمير المدينة، فكان يسمع الغناء ولا يظهر منه إلا الأمر الجميل، وكان ربما صفق بيديه، وربما تمرغ على فراشه وضرب برجليه وطرب، فأما أن يخرج عن مقدار السرور إلى السخف فلا.
قلت: فخلفاؤنا (خلفاء بني العباس)؟ قال : كان أبو العباس في أول أيامه يظهر للندماء ثم احتجب عنهم بعد سنة - أشار بذلك عليه أسيد بن عبد الله الخزاعي - وكان يطرب ويبتهج ويصيح من وراء الستار: «أحسنت والله! أعد هذا الصوت»، فيعاد له مرارا، فيقول في كلها: «أحسنت»، وكانت فيه فضيلة لا تجدها في أحد؛ كان لا يحضره نديم ولا مغن ولا مله فينصرف إلا بصلة أو كسوة قلت أو كثرت، وكان لا يؤخر إحسان محسن لغد، ويقول: «العجب ممن يفرح إنسانا فيتعجل السرور، ويجعل ثواب من سره تسويفا وعدة.» فكان في كل يوم وليلة يقعد فيه لشغله لا ينصرف أحد ممن حضره إلا مسرورا، ولم يكن هذا لعربي ولا عجمي قبله، غير أنه يحكى عن بهرام جور ما يقارب هذا.
فأما أبو جعفر المنصور فلم يكن يظهر لنديم قط، ولا رآه أحد يشرب غير الماء، وكان بينه وبين الستار عشرون ذراعا، وبين الستار والندماء مثلها، فإذا غناه المغني فأطربه حركت الستار بعض الجواري، فاطلع إليه الخادم صاحب الستار فيقول: قل له: «أحسنت! بارك الله فيك»، وربما أراد أن يصفق بيديه، فيقوم عن مجلسه ويدخل بعض حجر نسائه فيكون ذاك هناك، وكان لا يثيب أحدا من ندمائه وغيرهم درهما فيكون له رسما في ديوان، ولم يقطع أحدا ممن كان يضاف إلى ملهية أو ضحك أو هزل موضع قدم من الأرض، وكان يحفظ كل ما أعطى واحدا منهم عشر سنين ويحسبه ويذكره له.
وكان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء متشبها بالمنصور نحوا من سنة، ثم ظهر لهم، فأشار عليهم أبو عون بأن يحتجب عنهم، فقال: «إليك عني يا جاهل! إنما اللذة في مشاهدة السرور، وفي الدنو ممن سرني، فأما من وراء وراء فما خيرها ولذتها؟ ولو لم يكن في الظهور للندماء والإخوان إلا أني أعطيهم من السرور بمشاهدتي مثل الذي يعطونني من فوائدهم لجعلت لهم في ذلك حظا موفرا.» وكان كثير العطايا يواترها، قل من حضره إلا أغناه، وكان لين العريكة، سهل الشريعة، لذيذ المنادمة، قصير المناومة ، لا يمل نديما ولا يتركه إلا عن ضرورة، قطيع الخنا، صبورا على الجلوس، ضاحك السن، قليل الأذى والبذاء.
وكان الهادي شكس الأخلاق، صعب المرام، قليل الإغضاء، سيئ الظن، قل من توقاه وعرف أخلاقه إلا أغناه، وما كان شيء أبغض إليه من ابتدائه بسؤال، وكان يأمر للمغني بالمال الخطير الجزيل فيقول: «لا يعطيني بعدها شيئا.» فيعطيه بعد أيام مثل تلك العطية.
ويقال: إنه قال يوما وعنده ابن جامع وإبراهيم الموصلي ومعاذ بن الطبيب، وكان أول يوم دخل عليه معاذ، وكان حاذقا بالأغاني عارفا بها: من أطربني اليوم منكم فله حكمه! فغناه ابن جامع غناء لم يحركه، وكان إبراهيم قد فهم غرضه فغناه:
Shafi da ba'a sani ba