147

ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أثر من أجل الآثار الاقتصادية للدولة الإسلامية في بداية العصر العباسي، ويمكن النظر إليه كما ينظر الإسكتلنديون إلى كتاب «جون سنكلر» عن تاريخهم الاقتصادي، وهذا الأثر القيم الخالد الذي نظم جباية الدولة أجمل تنظيم وأدقه هو كتاب «الخراج» للفقيه الأكبر أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان.

هوامش

الفصل العاشر

الحالة الأدبية في صدر عصر بني العباس

(1) توطئة

أسلفنا لك القول في الحالة الأدبية في عصر بني أمية التي كانت في الواقع، إلى جانب ما بيناه لك من اختلافها عن العصر الجاهلي، قريبة في جملتها من غضاضة البدو وخشونة المدر، فلم تتسع لها الأغراض ولم تنفرج لها الجوانب إلا بقدر ما تنطبق عليه جزيرة العرب وبادية الشام من الأفكار والأخيلة، وما توحي به غياض دمشق ونبرات معبد من صفاء الفكر ووضوحه، وجلاء المعنى واقترابه، لا يبالي القوم الإمعان في الآراء البعيدة والأفكار الدقيقة، وإنما كان همهم، كما يقول الرواة، أن تجود ألفاظهم، وتجل تراكيبهم.

وفي الحقيقة أنهم قد اقتعدوا في ذلك من البلاغة ذروتها، وبلغوا من الجزالة غايتها، فكان الرجل منهم يضع لسانه حيث أراد ومتى شاء، وحسبك أن تنظر إلى ما جاء به زياد وعبد الملك والحجاج، وما أرسله جرير والأخطل والفرزدق؛ لتعرف أين كان القوم من البلاغة، وكيف تملكوا أعنتها في أيديهم، فلما جاءت دولة العباسيين وقامت أركانها على سواعد العجم، ودلف إليها السريان واليهود والفرس، وضمتهم الدولة إلى أحضانها، وأفرجت لهم بين ذراعيها، وأنزلتهم في كثير من أمور الدولة وشئونها، وأجرت عليهم من الأرزاق والخيرات، وتقدموا لها بتراث آبائهم وعصارة قرائح علمائهم، وحولوا ميراثهم إلى ميراثها؛ أفادت لغة العرب، وامتزجت المدنية السامية بالآرية، واتسعت دائرة المعارف، وتشعبت أغراض اللغة، وشمر كل ذي فضل في تدوين العلوم واستنباط أحكامها، ووضع الفنون واصطلاحاتها، وترتيب الدواوين ومراسيمها، وترجموا كتب الحكمة والمنطق، وازدهرت الآداب ازدهار الفتاء والقوة، فانتظمت رخاء الدنيا وسعادة الإنسان، وازينت بالحجج الحكمية والبراهين العقلية، وتولى كبر ذلك بشار وابن المقفع وأبو نواس وأضرابهم، وأدخلوا إليها الجديد عن طريق المجاز والقياس والاشتقاق، ولم يتحرجوا من استعمال الألفاظ الأعجمية في أسماء الألوان والآنية والفرش، وتأنقوا في صوغ العبارات وإحكامها، حتى مال بعضهم إلى السجع والازدواج، ومن أمثلة ذلك ما كتبه أبو شراعة إلى سعيد بن مسلم إذ يقول: «أستنسئ الله أجلك، وأستعيذه من الآفات لك، وأستعينه على شكر ما وهب من النعمة فيك؛ إنه لذلك ولي، وبه ملي. أتاني غلامك المليح قده، السعيد بملكك جده، بكتاب قرأته، غير مستكره اللفظ ولا مزور عن القصد، ينطق بحكمتك، ويبين عن فضلك.»

وجملة القول أن اللغة قد تجدد إهابها، وانفرجت شعابها، ونوعت أساليبها بما دخل عليها من نعيم الدولة وترف الحضارة، وما احتوته من العلوم والفنون، حتى كانت سيدة لغات العالم جميعا. (2) الخطابة والخطباء

كانت الداعية إلى الخطابة في العصر العباسي قوية متوافرة بليغة، كانت قوية لأن طبيعة الانقلابات السياسية الخطيرة، والدعوات المذهبية الحادة، والثورات الاجتماعية العنيفة من شأنها خلق مجالات التكلم، وتقوية الملكات الخطابية وتنميتها وزيادة ثروتها، والعمل على صقلها وبلاغتها، وكانت متوافرة لتعدد موضوعاتها وتشعب مناحيها، ولانكباب الدعاة والنفعيين عليها لانتهاز أمثال تلك المواقف، وكانت بليغة لقرب العصر العباسي من عصر البلاغة الإسلامية الأموية من ناحية الحرارة والتشيع إلى بني العباس، وقوة المحاجة في إنكار ما انتهكه الأمويون من حرمات الدين، ولتعدد أسباب التفاضل بين آل العباس والعلويين.

وإن نظرة تحليلية إلى خطبة المنصور التي خطبها حينما أخذ عبد الله بن الحسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، تعزز قولنا وتؤيد حكمنا، قال: يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بن أبي طالب تركناهم، والله الذي لا إله إلا هو، والخلافة فلم نعرض لهم فيما بقليل لا وبكثير، فقام فيها علي بن أبي طالب فتلطخ وحكم عليه الحكمان، فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة، ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه ، ثم قام من بعده الحسن بن علي، فوالله ما كان فيها برجل! قد عرضت عليه الأموال فقبلها، فدس إليه معاوية : إني أجعلك ولي عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه وسلمه إليه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدا، فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن علي فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة، أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرة السوداء - وأشار إلى الكوفة - فوالله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بن علي فخدعه أهل الكوفة وغروه، فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه، وكان قد أتى محمد بن علي فناشده في الخروج، وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة وقال له: إنا نجد في بعض علمنا أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب، وناشده عمي داود بن علي وحذره غدر أهل الكوفة، فلم يقبل وتم على خروجه؛ فقتل وصلب بالكناسة،

Shafi da ba'a sani ba