القريب العهد بتأثر الأذهان بالمثل العليا ...
من أبي بكر الذي مات ولم يجدوا عنده من مال الدولة إلا دينارا واحدا سقط من غرارة، والذي أوصى حينما دنا أجله بأن تباع أرض كانت له ويدفع ثمنها بدلا مما أخذه من مال المسلمين.
ومن عمر بن الخطاب الذي حرم على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة؛ لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم وما يملكون من عبيد وموال، كل ذلك يدفعه لهم من بيت المال، فما بهم إلى اقتناء المال من حاجة، وليس للمال في نفوسهم من إغراء، ولا إلى ضمائرهم من إفساد.
هذه حال المسلمين المادية والمعنوية في عهد النبى
صلى الله عليه وسلم
وصاحبيه، نظر بينها وبين ما جد بعد ذلك من كثرة في المال وإسراف في الترف، مما كان له أعمق الأثر في تغير أحوال المسلمين الاجتماعية والمعيشية والخلقية.
يحدثنا ابن خلدون عن عامل أموي ليس بملك ولا خليفة، يحدثنا عن خالد القسري أمير العراق في أيام هشام، فيقول: إن غلته بلغت ثلاثة عشر ألف ألف درهم، ويثبت لنا ابن الأثير دليلا ليس بأقل مما ذهب إليه ابن خلدون قيمة وخطرا؛ إذ يقول ما نصه: «إن طارقا خليفة خالد على الكوفة لما ختن ولده أهدى إليه خالد ألف وصيف ووصيفة سوى الأموال والثياب»، وذكر اليعقوبي أن خالدا فرق أموالا عظاما مبلغها ستة وثلاثون ألف ألف درهم.
أجل! لقد تحولت الاعتبارات الاجتماعية وفاقا للتغيرات المادية، فبعد أيام الورع وغلبة سلطان الدين والعدل في أعطيات المسلمين، بعد أيام عمر وصحابة عمر التي نعلم الشيء الكثير من وجهة نظر عمد الدين الإسلامي فيها إلى المال - وهو عنصر حيوي شديد الأثر في تحول النظم المعيشية والاجتماعية والسياسية أيضا - وإلى ضرر اختزانه، فقد قال قائل لعمر بن الخطاب: «يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال شيئا يكون عدة لحادث إذا حدث!» فزجره عمر وقال له: «تلك كلمة ألقاها الشيطان على فيك وقاني الله شرها! وهي فتنة لمن بعدي. إني لا أعد للحادث الذي يحدث سوى طاعة الله ورسوله، وهي عدتنا التي بلغنا بها ما بلغنا.»
بعد هذه النظرات التقشقية البريئة، نظرات الورع والزهد، سرعان ما حملت الفتوح معها ومع تلك الثروات الطائلة التي أتت بها ما غير عناصر عدة، فاختزن المال، وكانت الفتنة كما تنبأت نظرات عمر الصائبة إلى المال واختزانه، وذهبت في آثارها إلى ما هو أعمق وأخطر، ذهبت إلى الكيان الخلقي للعرب، فبدلت من سيرة قادتهم وسيرة شعبهم؛ كانت سيرة قادتهم عدلا وإنصافا، وسيرة شعبهم أنفة وانتصافا، فتبدل الحال غير الحال حتى أتيح لمصعب بن الزبير مثلا - وهو من بيت يناوئ بني أمية وينافسهم في الملك - أن يبذل ألف ألف درهم في زواجه من سكينة بنت الحسين، ومثلها في زواج عائشة بنت طلحة، في حين كان جند المسلمين يتضورون مسغبة وجوعا حتى كتب عبد الله بن مصعب إلى عبد الله بن الزبير؛ لمناسبة ما يعانيه الجند وترف شقيقه زعيم الجند:
بلغ أمير المؤمنين رسالة
Shafi da ba'a sani ba