لم تكن حياته في الكتاب يسيرة، فتلقى كثيرا من الزجر ولكنه لم يجلد قط. عرف الشيخ العزيزي أنه لا يستطيع أن يتجاوز معه حدودا معينة. وتقدم عزت فوق جسر من العثرات، وربما أعانه وحمسه أحيانا نشاط حمدون الموفور، أصبحت صداقتهما حقيقة، وقد عرف مع الأيام جميع الصبيان، ولكن بقي حمدون الصديق الأوحد. ورحبت عين بحمدون، أعجبها منظره النظيف ورغبته المبكرة في الحفظ، ورجت أن يجد فيه عزت مشجعا على العمل. قالت: إن الولد ذكي ومحب للمذاكرة دون أن يدفعه أحد إلى ذلك. وتمنت له مستقبلا حسنا يعوضه عن يتمه، وأكثر من مرة قالت له: ربنا يفتح عليك، إذا واظبت على اجتهادك فلن تترك التعليم لتتعلم حرفة يدوية.
وجعلت تدعوه للغداء يوم الجمعة. وبسبب ذلك دعت خالته ست رمانة لزيارتها؛ فتوطدت بينهما علاقة طيبة. وكان زوجها تاجر أجهزة سرادقات يؤجرها في الأفراح والمآتم، ربحه لا بأس به، ولكن كان له من الأبناء عشرة، رغم ذلك عطفت ست رمانة على حمدون، وعاملته كأي ابن من أبنائها. وكان قد ورث عن أبيه قطعة أرض صغيرة تنفع عند الضرورة للبيع والانتفاع بثمنها. واعترفت ست رمانة أكثر من مرة قائلة: إني أحبه لاجتهاده ... يندر أن تجدي مجتهدا في سنه.
هكذا بشرت الصداقة بخير للطرفين ووهبتهما سعادة بريئة سابغة، وكصداقة الصبية لم تخل من نزاعات فارغة، مثل هزيمة تلحق بأحدهما في الحجلة أو السيجة، ولم يكن ابن الست عين ممن يقبلون الهزيمة بروح طيبة، ولكن لم تتعد الخلافات قطيعة ساعة، وسرعان ما يجيء التنازل من ناحية حمدون!
واللعب في الحارة كان تسلية لا مفر منها، ثم بات هدفا سعيدا عندما انضمت إليهما سيدة وبدرية، ولم يستهجن أحد ذلك طالما دار اللعب تحت الأعين وفي ضوء النهار، واستأثرت بدرية بإقبال الصبيين حتى شعرت سيدة بأنها تكملة عدد ليس إلا، لم ينفعها مرحها، وتوارى حظها مع دكنة بشرتها وأنفها المتكور الذي يعيد سيرة أنف الأم. انبهر عزت بوجه بدرية رغم حداثة سنه، وسبق قلبه سنه في الانفعال بعاطفة مبهمة تستقطر الأشواق من أرض خرافية لا وجود لها إلا في الخيال. ولكي يستأثر باهتمامها حكى لها عن داره، أثاثها ورياشها، عن الحديقة والفواكه والأزهار. وقالت سيدة: أنا أعرف ذلك كله.
فقال عزت: ولكنها لا تعرف.
وقالت بدرية: نحن نلعب في الحارة فقط.
وقال حمدون: وسيدة تدخل الدار مع أمها.
فقال عزت لبدرية: فلتزرنا أمك وأنت معها.
فقالت بدرية: أبي لا يسمح لأمي بالخروج.
وكانت سيدة تتودد إليه ما وسعها ذلك، ولكنه لم يكترث لها، وربما وردت على ذهنه ذكرى الخميلة، ولكنها ترد مقرونة بالألم والخوف والخجل، أما بدرية فإنه يتطلع إليها بخيال عجيب سعيد مرح، يعد بأفراح الدنيا والآخرة.
Shafi da ba'a sani ba