وفي الطريق إلى المطار. - هل بقي معك شيء من النقود؟ - خمسون جنيها. - هاتها. - وأنا كيف أعيش؟ - في ظرف أسبوع سيكون عندك ما تشائين من مال. - وماذا أعمل في هذا الأسبوع؟ - ليس صعبا أن تدبري أمرك لمدة أسبوع. - أمري إلى الله.
وأخذ الخمسين جنيها.
وبعد أسبوع فعلا وصل إليها خطاب من زوجها لم يكن به مال، وإنما كان به ورقة طلاق.
وتسألني فيم أقص هذه القصة وهي في كل يوم على شاشة السينما، ولكنني اليوم أنقلها إليك من الحياة لا من السينما. وأنا مع كل ذلك لا أدري لماذا أحببت أن أقصها عليك.
الإنسان ودون كيشوت
في الرحلة من مدريد إلى الأندلس مررنا في أول المطاف بقرية صغيرة نزلنا فيها بمقهى لا أقول أنيق وإنما هو ذو طابع خاص، وفي صدر فنائه تمثال لدون كيشوت بطل الروائي الرائد سرفانتس. وعلى لافتة بالمقهى تبين لنا أن هذه البلدة كان يعيش بها سرفانتس، وأن أهلها يخلدونه بإطلاق اسم بطله على هذا المقهى الذي يقال فيما يقال إن سرفانتس كان يعيش فيه. والعهدة في ذلك على الراوي.
وقالت الدليلة التي تقود الرحلة إن رواية دون كيشوت من أعظم الروايات العالمية. ثم ذكرت ما قاله بعض النقاد عنها، ولم يكن ما قالته جديدا علي؛ فقد قيل إن رواية دون كيشوت يقرؤها الطفل فيضحك ويقرؤها الشاب فيبتسم ويقرؤها الشيخ فيبكي. ولما كان الطريق طويلا فقد لذ لي أن أفكر في هذا الذي قاله النقاد أو بعض النقاد؛ فالنقاد أحيانا يطلقون أحكامهم مبهورين بصياغة أحكامهم - دون أن يقدموا الحيثيات لهذه الأحكام - ويتركون لنا بعد ذلك أن نفسر نحن ونبحث عن الحيثيات.
أما أن الطفل يضحك إذا قرأ دون كيشوت فهذا أمر طبيعي؛ فمواقف دون كيشوت وخادمه تثير في ظاهرها الضحك كل الضحك، والطفل يأخذ من الأمور ظواهرها، ولا شأن له بما وراء هذه الظواهر من معان متخفية. وكم تمنينا حين امتد بنا العمر وشببنا عن طوق الطفولة إلى ريق الشباب وحين دلفنا من نضرة الشباب إلى الكهولة لو ارتد بنا العمر إلى هذه الأيام النضرة الساذجة من حياتنا أيام كنا نقرأ الأعمال فإذا قراءتنا متعة خالصة؛ فلا نحن نبحث عن الهدف ولا عن المضمون ولا نحن نستقصي ما أراد الكاتب وما لم يرد، وإنما هو انطباع عام يتسرب إلى دخيلة نفوسنا لا ندري مأتاه ولا مصادره. ولست أنسى أيام كنت أقرأ للمازني وأنا في حجرة منفردة فإذا أنا أقهقه ضاحكا حتى ليصيب الذعر أهل بيتي، ويحسبون أنني أرى من النافذة ما لا يرون، ويسارعون إلى الحجرة يفتحونها فإذا أنا قصي عن الشباك، بعيد، لا صلة بيني وبين الحياة إلا هذا الكتاب، فيتولاهم العجب والدهشة، وينصرفون عني يمصمصون شفاههم من عبطي، وأظل مع كتابي، نافذتي الكبرى التي هي عوالم من المتعة، فقدناها منذ أصبحت القراءة والكتابة حرفة لا هواية، ومنذ أصبحنا نبحث عن المضمون والهدف والشكل والفورم.
فليس عجيبا إذن أن يضحك الطفل وهو يقرأ دون كيشوت؛ فهو يتلقى العمل بمرآة صافية جديدة من نوع خاص، تختزن كل ما تراه، فإذا غاب عنها أصل الصورة بقيت منها على صفحة المرآة ظلال وانطباعات ليس يمحوها الزمان.
أما ابتسام الشباب حين يقرأ دون كيشوت فليس غريبا أيضا؛ فالشباب هو زمن الحكمة الزائفة حين يظن الفتى أو الفتاة وهو في هذه السن الرائعة أنه أحكم الحكماء وأنه أعقل الناس وأغزرهم علما وأكثرهم تجربة، وأن ما يعرفه هو لا يعرفه أحد، وأن التجارب التي مرت به هيهات لغيره أن يتعرض لها. فما له إذن لا يبتسم ابتسامة سخرية من دون كيشوت هذا الذي يحارب طواحين الهواء، والذي يعرض نفسه لمواقف لا تستدعي إلا الهزء والاستخفاف بصاحبها، وإنزاله إلى درك من البشرية بعيد كل البعد عن الإقدام. ومع ذلك يصر هو دون كيشوت على أنه بطل الأبطال، وأنه رجل فذ لم تلد الأمهات له مثيلا، فمن الطبيعي إذن أن يبتسم الشاب ابتسامة الحكماء وابتسامة الهزء أيضا؛ فهو واثق أنه لا يمكن أن يصنع ما يصنعه هذا الأبله دون كيشوت، ولا يمكن أن يسمح للناس أن يسخروا منه سخريتهم من ذلك البطل الحالم الذي يحارب الجماد ويعترك في غير معترك، ويجيش من الوهم جيوشا ليحارب بها من لا وجود له. للشباب إذن أن يبتسم.
Shafi da ba'a sani ba