وقد لقي هذا الجد ربه بعد أن أصبح ابنه موظفا بالحكومة بشهادة متوسطة. واستطاع هذا الأب بجهد جهيد وكفاح مرير أن يعلم ابنه موضوع هذه الصورة، فتخرج في كلية.
مسكين هذا الفتى. لقد شب في زمن الحقد فهو ينظر إلى ماضي أسرته في فزع وفرق وإشفاق، ويخشى أن يعلم الناس حقيقة هذا الماضي. والمجنون لا يعرف أن الناس تعرف هذا الذي يخشاه، وأنهم يقدرون جده أكثر مما يقدرون أباه، وأنهم يحتقرونه هو مع أنه يحمل هذه الشهادة التي حصل عليها؛ فقد كان أبوه وأسرته جميعا قوما شرفاء يحبهم الناس ويقدرونهم لأنهم عاملوا ربهم في تخشع المسلم الصادق، وعاملوا الناس في ود وإيناس يسعون لهم ويسعون بينهم بالخير والحب والصفاء؛ فجده وأخو جده كانا في زمانهما صفحة مضيئة مشرقة من صفحات الحياة، يراهما الناس فيحمدون الله أن بينهم مثل هؤلاء القوم الأتقياء والأنقياء. وليس يعني الناس في كثير أو قليل بهذه الشهادة التي يحملها هذا الغر ما دامت شهادته لم تستطع أن تجعل نفسه شفيفة، ولا استطاعت أن تجعل في قلبه حبا.
مسكين هذا الفتى يأكله الحقد فتشتعل النار في نفسه، ولكنها نار لا تأكل إلا صاحبها؛ لأن صاحبها أهون كثيرا من أن تحس به الحياة.
هو ملحد، ولكن إلحاده يغريه وحده كما يغري الضياع صاحبه، فإذا كانت الأرض لا تحس به أو بإلحاده فكيف بالسماء.
كل حسن في عينيه قبح، وكل سلام في نفسه حرب. وكل الدنيا في عينيه قاتمة كنفسه، كئيبة كإلحاده لا دفء فيها ولا إيناس. ومن أين وهو غريب أشد الغربة عن أهله وهم أهله، وعن وطنه وهو وطنه، وقبل كل هؤلاء عن دينه وهو دينه؟
مسكين هذا الفتى. اختلت موازين الحياة في نفسه وانقلبت؛ لأنه يظن أنه ينتسب إلى جد وأسرة لا تشرفانه، وهو في هذا حقير ساقط الرأي. ولأن أسرته تراه أنه ملحد ويأبون أن تمس أيديهم يد الإلحاد فيه، كما يأبون أن يمدوا حياته بدفء الأقارب وحب الأهل وهم في هذا محقون.
من هذا التناقض نبت في نفس الفتى سرطان الشيوعية. •
وفي صورة أخرى بعيدة في جذورها كل البعد عن هذه الصورة قريبة منها في حقيقتها.
كان أبوه ثريا غاية الثراء، وبقدر ثرائه كانت سخافته وتفاهة تفكيره. وكان رحمة الله عليه جاهلا كل الجهل. والجهل في اللغة له معان كثيرة؛ المعنى المعروف الذي يجعل صاحبه حيوانا أعجم لا يفهم عن أحد ولا يفهم أحد عنه. لا يقرأ في الكتب ولا يقرأ في الحياة فهو جاهل. وهناك معنى آخر كانت تستعمله العرب فيقال جهل فلان على فلان؛ أي أساء إليه وتهجم عليه. ويقول عمرو بن كلثوم في معلقته:
ألا لا يجهلن أحد علينا
Shafi da ba'a sani ba