وكان الجمود قد استولى على الحاضرين، ولكنهم لما رأوا الأسد مضرجا بدمه وضرغام فوقه والخليفة واقف وعيناه شائعتان إلى ضرغام تقاطروا راجعين، وعلا صياحهم يهنئون الخليفة وينظرون إلى ضرغام معجبين. وابتسم المعتصم لضرغام والاصفرار غالب على سحنته من أثر البغتة، وقال: «بورك فيك يا ضرغام ... إنك والله ضرغام حقيقة!»
فلما سمع إعجاب الخليفة به رجع إلى رشده فوقف والخنجر في يده يقطر دما. فرماه وقال: «إني عبد أمير المؤمنين ولم أفعل شيئا إلا ببركته، وإنه أولى مني بالانتقام من هذا الوحش. ولو انفرد به لقتله ولكنني غلبت على رشدي فلم أستطع صبرا على ما رأيته من جرأته فنبت عن مولاي بقتله ، وهي جرأة أستغفر لها.»
فأعجب المعتصم بأسلوبه في الاعتذار وشكره، ورأى أن يؤجل ما بقي عنده من الكلام لخلوة يختليانها، وهم بالمسير فأحس بألم في ذراعه من أثر مخالب الأسد ولكنه تجلد ومشى وأمر القوم بالانصراف، وتحول ضرغام إلى قصره وأمر الحاجب أن يمنع الدخول عليه في ذلك اليوم إلا للطبيب الذي أمر بإحضاره، فلما أتى هذا وكشف عن الجرح لم يجده يستحق الاهتمام؛ لأن الدرع صانت موقع المخالب. فهنأه بالسلامة وأشار عليه أن يلزم الفراش بقية ذلك اليوم. •••
وتسامع أهل الجوسق بما وقع للخليفة، فتقاطر الوزراء والقواد للسؤال فأنبأهم الحاجب بما أوصاه به فرجعوا. ثم دعا ضرغاما إلى مخدعه فدخل بعد أن غسل يده وأصلح من شأنه، فتحفز المعتصم للوقوف له إظهارا لإعجابه، فأكب ضرغام على يده يقبلها، ثم أمره الخليفة بالجلوس بجانبه فجلس متأدبا، فقال له: «إن حياتي الآن من يدك يا ضرغام.»
فأطرق ضرغام استحياء وقال: «عفوك يا مولاي، إني لم أفعل ما يستحق هذا الإطراء فإنما نبل أمير المؤمنين أردى الأسد من قبل، وما وثوبه هذا إلا من حشرجة الاحتضار. وهب أني أتيت شيئا فأنا عبد أمير المؤمنين أفديه بدمي.»
قال: «بورك فيك. إني لطالما أعجبت ببسالتك وإخلاصك وأنا محاط بالمداهنين والمملقين لا أثق إلا بقليلين، وإن كنت أظهر وثوقي بهم جميعا. وإن قائدا مثلك يندر في بلاط الخلفاء في مثل هذا الجيل الفاسد. ولم أكن أجهل إخلاصك من قبل؛ ولذلك جعلتك رئيس حرسي، فأنت جدير بهذا المنصب ولا يليق إلا بك.» ثم التفت إلى الباب ثم إلى النافذة كأنه يتفقد المكان ليتحقق خلوه من الرقباء وأطرق وضرغام ساكت يسترق النظر إليه، ثم رفع المعتصم رأسه وقال: «أتعلم لماذا استعجلت مجيئك من فرغانة؟» قال: «كلا يا مولاي.»
قال: «أتعلم أن دولتنا قامت على كتم الأسرار؟»
قال: «نعم أعلم ذلك، وليتأكد مولاي أني أحفظ لسره من صدره.»
قال: «إني وثقت بك لإخلاصك وحسن بلائك منذ رأيتك للمرة الأولى وقد شعرت بشيء حببك إلي.»
فتحفز ضرغام للوقوف إجلالا وشكرانا وقال: «تلك منة لا أستحقها، ومن أين لجندي مثلي أن ينال هذه الحظوة عند أمير المؤمنين؟! وأي فضل لي إذا أخلصت الخدمة لخليفة الرسول؟ أليس ذلك فرضا على كل مسلم؟!»
Shafi da ba'a sani ba