فقالت: «احتفظ به فقد يكون شهما خانه الدهر والدهر بالناس قلب.» ثم انتبهت إلى أن قد دنا موعد الرقاد، ولا سيما أنه متعب من السفر؛ فقالت: «اذهب يا حبيبي إلى فراشك، وغدا تخرج بحراسة الله إلى المعتصم، وأرجو أن تلقاه وأنت في خير وعافية.» قالت ذلك ونهضت وذهب كل إلى فراشه.
الفصل الثاني عشر
المعتصم والأسد
نهض ضرغام في صباح اليوم التالي، فقبل يد أمه وأفطر، ثم ارتدى الثياب التي يدخل بها على الخليفة وأهمها: القلنسوة حولها العمامة، والسواد وهو الجبة السوداء الخاصة بالعباسيين وتحتها القباء والسراويل. وتقلد السيف، ثم ركب جواده، وركب وردان في أثره، وسارا يلتمسان قصر الخليفة.
وكان قصر المعتصم في الجانب الشرقي من سامرا، ويقال له الجوسق، ويحتوي على أبنية عدة يضمها سور واحد. وقد قلد في بنائه طراز الأكاسرة في المدائن؛ فجعل بابه الخارجي مثلث القناطر؛ القنطرة الوسطى كبيرة لمرور الفرسان، وإلى كل من جانبيها قنطرة صغيرة يمر تحتها المشاة. ويستطرق الداخل إلى حديقة كبيرة بها أبنية كثيرة أكبرها البناء الذي يقيم به المعتصم، وبقية الأبنية للحاشية وفي جملتها بناء للأضياف وآخر للسباع. فقد كان المعتصم مولعا باقتنائها وكثيرا ما يخرج لاقتناصها.
وصل ضرغام إلى ذلك القصر في الضحى، فلما أقبل على الباب وقف له الحرس وحيوه، فدخل على جواده، وترجل وردان وقاد فرسه في أثره أما ضرغام فلم يترجل حتى دنا من قصر الخليفة فأخذ وردان فرسه وساق الفرسين إلى الإصطبل، فرحب الحاجب بضرغام، ولما سأله عن المعتصم قال: «لقد خرج أمس للقنص ولم يعد بعد.»
قال: «وهل تظنه يعود الآن؟»
قال: «لا يلبث أن يأتي.»
فأدخله الحاجب إلى قاعة يستريح فيها، ووقف بين يديه وأخذ يرحب به ويسأله عن سفره، فطمأنه وسأله عن الأحوال الجارية لعله يفهم سبب طلبه فلم يجد ما يشفي غليله. ومكث وهو يتشاغل بمشاهدة ما أحدث في القصر من الرياش الجديد. ثم رأى أن يخرج إلى الحديقة يتفرج على ما فيها من الأشجار والرياحين فرافقه الحاجب إلى بعض أطرافها وإذا بأهل القصر في هرج ومرج وصاح بعضهم: «عاد الخليفة.» فتحول القوم نحو الممر المؤدي إلى القصر وأخذت طلائع الموكب تتقاطر بين فرسان ومشاة، ثم أقبل الخليفة على جواده وعليه لباس الصيد فوق الدرع التي يلبسها إذا خرج للصيد خوفا من وثوب السباع أو غيرها من الضواري.
وكان المعتصم ربع القامة طويل اللحية أبيض أصهب مشربا حمرة تلوح الشجاعة في وجهه وتتجلى القوة العضلية في بدنه. وبلغ من قوته أنه كان يحمل ألف رطل ويمشي بها خطوات. وإذا اعتمد بإصبعيه السبابة والوسطى على ساعد إنسان دقه. وكان يلوي العمود الحديد حتى يصير طوقا ويشد على الدينار بإصبعه فيمحو كتابته. وكان غضوبا شديد النقمة منصرف الهمة إلى ركوب الخيل واللعب بالصوالجة. فلما وصل إلى باب القصر ترجل وحيا الوقوف وأكثرهم من القواد والفرسان، فوقع بصره على ضرغام فهش له وحياه فأسرع ضرغام إليه وهم بتقبيل يده. فمنعه وقال: «أنت هنا!»
Shafi da ba'a sani ba