أما هو فلم يفته ما خامر قلبها من الحزن والخوف، وأراد تعزيتها فعصاه النطق ولم يزد على أن حرك شفتيه وحول نظره وأشار بيده إلى الأفشين والموبذ. فالتفتت فرأت الأفشين جالسا وفي يده لفافة من الورق فلما رآها تنظر إليه بعد إشارة أبيها أراها اللفافة وابتسم لها كأنه يعزيها. وكان الموبذ واقفا بجانب التمثال يصلي ويتضرع فالتفت إليها وهو يظهر الأسف والحزن. ففهمت جهان خلاصة ما تم في تلك الخلوة وهو ما كانت تخشاه وتحذر الوقوع فيه. وأعادت النظر إلى المريض وصاحت: «كيف أنت؟ إنك في خير.»
فأراد أن يجيبها ويطمئنها والحشرجة تمنعه من الكلام، فجلست بجانبه وأمسكت يده فوجدتها تندى بعرق بارد، فكادت تصيح وتولول لأنها تحققت أنه في آخر ساعات الدنيا، وتجلدت لكنها لم تستطع إمساك دموعها فأطرقت والدمع يتساقط على خديها وقد زادهما احتباس العواطف توردا وزاد عينيها بريقا. وأما المريض فإن سرعة تنفسه وخرير صدره ودنو أجله لم تفقده شيئا من رشده ولا أنسته ابنته الحبيبة، وجاهد كي يطلق لسانه بكلمة يقولها ولكنه غلب على أمره. فلما تحقق عجزه عن الكلام أشار إليها أن تخرج لعله ينام. فوقفت ترتعد مترددة لا تدري أتطيعه فتخرج أن تبقى بين يديه.
ثم رأته قد ازدادت حشرجة صدره وأخذ يدير رأسه ويلتفت كأنه يحاول النهوض ولا يقوى عليه، وأخيرا حدق نظره في جهان فتطلعت في عينيه فرأت ماءهما قد جف وذهب منهما بصيص الحياة وكأنه هم بأن يبسط يديه نحوها فلم ترتفعا إلا قليلا، ثم شهق وأرخى يديه وسكن صدره وهمد جسده وأظلمت عيناه وتراخت أجفانه وبرز أنفه ووجنتاه، واصفر اصفرار الموت ونفش شعر لحيته ورأسه حتى أصبح منظره مروعا مفزعا، فصاحت جهان: «وا أبتاه!» وحلت شعرها ولطمت وجهها وسمع أهل القصر صوتها، وبلغ الخبر إلى القهرمانة فركضت وأخذت بيد جهان وراحت تخفف عنها وتعزيها.
ولما قضي الأمر أخذ أهل القصر في إعداد المأتم كما هي عادة المجوس، فغسلوا الجثة وألبسوها ثوبا أبيض ووضعوها على دكة في غرفة كبيرة أخلوها من الأثاث، وجلس الأخصاء حولها. والموبذ يصلي ويدعو وهم يؤمنون ويستغفرون. وبعد هنيهة جاء سامان وكان غائبا عن البيت وأخذ يندب أباه والناس يخففون عنه، وأما جهان فبعد أن استسلمت للجزع ساعة الوفاة رجعت إلى نفسها فغلب عليها التعقل وإعمال الفكر. وكانت تفكر في ضرغام مصدر تعزيتها الوحيد فأخذت تتلفت لعلها تجده قادما فتتعزى برؤيه ومخاطبته.
ثم أشار إليها الموبذ أن تتبعه إلى غرفة أخرى، ومشى فتبعته مطأطئة الرأس، وتبعها سامان فلما خلا الموبذ إليهما قال: «لا ينبغي أن تبالغا في الحزن على أخينا الراحل، فإن أورمزد معه لأنه كان رجلا تقيا محسنا، وسنوقد النيران على اسمه ثلاثة أيام ونجعل وقودها الند والصندل. ولا يخفى عليكما أن روح أبيكما لم تفارق هذا المكان بعد ولا تفارقه إلا بعد ثلاثة أيام فلا تحزناها بالبكاء والنوح. وقد أوصى بتفريق الحسنات والمبرات وهو لا ريب عندي من أهل النعيم. ولذلك فإن روحه بعد أن تقضي ثلاث ليال حول الجثة تصعد إلى الأماكن المباركة فتلاقي ضميره على هيئة حورية تقص عليه حسناته وتقوده إلى النور الأبدي. كما أننا سنوالي الصلاة على روحه طول السنة فلا تجزعا. على أني أبلغكما وصيته عن دفنه.»
وكانت جهان تسمع مطرقة وتتلقى دموعها بمنديلها، فلما قال ذلك رفعت بصرها إليه وفي عينيها ملامح الاستفهام فقال: «لقد أوصى بأن ندفنه في برج السكوت.»
فلما قال ذلك بانت الدهشة على وجه الفتاة وأخيها وقالت: «كيف ذلك؟! إنما يدفن في برج السكوت عامة الناس والفقراء، ومثل أبي يدفن في حجرة خاصة.»
قال: «نعم ولكنه أوصى بدفنه هناك، وأسر إلي السبب الذي بعثه على ذلك ولا أقدر أن أبوح به.»
فاكتفت بقوله وسكتت، أما سامان فلم يسكت وقال: «كيف ندفن أبانا المرزبان في برج السكوت وأنت تعلم أنه مدفن العامة، توضع فيه الأجساد على أحجار تعرضها للهواء وتذهب طعاما للنسور والكواسر فلا يبقى منها إلا العظام ثم تطرح هذه في البئر العميقة وسط البرج فتختلط بعظام الطغام والمجرمين و...»
فاستغرب الموبذ اعتراضه ولم يعره التفاتا وإنما قال له: «هذه وصية الفقيد بحضور مولانا الأفشين وقد دونها في وصيته التي ستتلى عليكم بعد بضعة أيام.» قال ذلك وتوجه إلى قيم القصر فأوصاه بما ينبغي إعداده للدفن.
Shafi da ba'a sani ba