ورغم أن مسألة الكاهن مولر كانت قد حسمت تماما، فقد استعادتها إلينورا مرة تلو الأخرى. كانت تحدق إلى ورق الحائط أمامها وتسترجع ذكرى الحادث؛ الدرج المفتوح والكاهن ينادي اسمها قبل أن يغادر الغرفة. كانت تعلم أن دورها في الأمر لا يستحق اللوم، فلا شك أنها قد رأت الكاهن يفتش درج الكولونيل، ولا شك أنه قد وضع ورقة أو رزمة من الورق في حقيبته، ولا شك أنها قد قامت بالفعل الصحيح عندما أخبرت البك. أخبرت نفسها أن الأمر ليس معقدا، فقد سرق الكاهن مولر شيئا؛ ومن ثم فإن البك لم يعد يرغب في استضافته في منزله، ولكن ما زال شيء ما في الأمر يزعجها؛ فلم تفهم السبب الذي دفع الكاهن إلى سرقة شيء من البك في المقام الأول، ولا السبب في أن رد فعل البك كان بتلك الحدة. ربما كان ذلك تأثير الروايات البوليسية التي كانت تقرؤها، أو ربما كان شعورها الطبيعي بالفضول. وبصرف النظر عن مصدر ذلك الشعور، فلم تستطع إلينورا أن تتخلص من فكرة ارتباط قضية الكاهن مولر بطريقة ما بالشاب الغريب في مقهى أوروبا، وربما أيضا بالرسالة المشفرة التي أراها إياها قبل طرده ببضعة أسابيع.
في تلك الفترة، بين انتهاء دروسها ونهاية شهر رمضان، بدأ البك يقترح عليها القيام بعدة رحلات قصيرة في أنحاء المدينة. فعندما كانا يتناقشان بشأن هوميروس، كان يذكر لها أن أطلال طروادة قد اكتشفت مؤخرا على مسيرة أقل من يوم واحد من إسطنبول. وإذا وجهت إليه سؤالا عن المهندس المعماري سنان، كان يمدح التصميم الداخلي لمسجد السلطان أحمد. وأشار أكثر من مرة إلى منظر المدينة الرائع من أعلى قلعة روميليا، مضيفا أنها تعد إلى حد بعيد أفضل مكان للتنزه في إسطنبول. ولكن لما كان منصف بك لا يرغب في الضغط عليها، فلم يقترح مباشرة القيام بأي من تلك الرحلات، ولم ترفض إلينورا مباشرة أيضا. ظل كل منهما يلمح ويعترض، ثم يعود مرة أخرى إلى نفس الموضع، كما لو كانا ملكا ورخا في حصار أبدي في لعبة الشطرنج. كان البك يمتدح جمال اليوم، وإلينورا تهز رأسها بينما فكرها مشغول بأمور أخرى.
وذات مساء، بينما كان شهر رمضان يوشك على الانتهاء، كانت إلينورا تجلس إلى مكتب الكولونيل في المكتبة تقرأ كتابا لأرسطوفانيس. كانت السماء تمطر في الليلة الماضية، مجرد عاصفة صيفية قصيرة. ولذلك فتحت السيدة داماكان الستائر حتى غمر ضوء الأصيل الغرفة، مضفيا على الأثاث وصفحات الكتاب الذي في يديها صبغة غير معهودة من الكآبة:
أي هموم لم تنخر في قلبي؟ وكم كانت قليلة المتع في حياتي! أربعا تحديدا، بينما متاعبي لا تعد ولا تحصى كعدد حبات الرمل على الشاطئ.
تنهدت إلينورا ونظرت إلى ورق الحائط الذي يمتد أمامها. كالعادة، كان هو التصميم نفسه الأحمر الداكن المزركش ذا الشرائط الذهبية، ولكنها عندما حدقت إليه لاحظت للمرة الأولى مجموعة من السيوف الذهبية الدقيقة المتناثرة عبر ورق الحائط المزركش. أمالت مقعدها إلى الخلف حتى استقر على قائمتين فحسب كي تتمكن من ملاحظة ورق الحائط على نحو أفضل، فخدشت ركبتها في جانب المكتب. نظرت للأسفل واستقرت عيناها على المقبض النحاسي المقوس للدرج الأيسر، وتساءلت، وهي تحك ركبتها، كما تفعل دائما عما كان يبحث عنه الكاهن وما إذا كان قد وجده أم لا. ولكن ذلك المساء لأسباب لا تستطيع شرحها حتى لنفسها فعلت ما هو أكثر من التساؤل؛ فقد دفعت مقعدها بعيدا عن المكتب، ولفت أصبعين عبر مقبض الدرج وجذبته. توقعت أن تجده موصدا، ولكنه فتح بسهولة، وهناك وجدت رزمة من الخطابات مربوطة بعناية بخيط، كما لو كانت عشا من الطيور مختبئا وراء الجدار الأعلى لكنيسة.
نظرت إلى باب المدخل، ثم فكت الخيط وسحبت الخطاب العلوي. كان مظروفا مربعا سميكا يحتوي على دعوة موجهة إلى السيد منصف باركوس، وعنوان المرسل بارز على الغلاف الخلفي: القنصلية الأمريكية في بيوجلو، وتحت تلك الكلمات صورة نسر يحمل العالم في مخالبه. رفعت الغلاف وضغطت على حواف الخطاب حتى انزلقت الدعوة. «مطلوب حضور حامله في حفل تنكري في القنصلية الأمريكية.» وأسفل الدعوة كان مدونا تاريخ أكتوبر 1883 منذ عامين تقريبا. وضعت إلينورا الدعوة جانبا، ورفعت رزمة الخطابات بأكملها. كانت خليطا من المراسلات الشخصية وبضع دعوات وخطابين رسميين من القصر، لا شيء فيهما يهم. كانت على وشك العودة لأرسطوفانيس، عندما وجدت في قاع الرزمة خطابا لا يشبه الخطابات الأخرى.
كان مغطى بالبصمات الزيتية والغبار، مما أعطاه طابعا ريفيا. لم يكن ثمة طابع بريدي أو عنوان مرسل، والدليل الوحيد على وجهته تلك الكلمات: «منصف باركوس بك، حاملته إليك السيدة داماكان.» حملت إلينورا الخطاب أمام أنفها واستنشقت رائحة مألوفة، رائحة طريق ريفي مدفونة في أعماق ذاكرتها. لم يكن هذا هو ما بحث عنه الكاهن بالطبع، ولكن الرائحة لمست وترا بداخلها كما فعلت اليد الصغيرة المترددة في مقدمة الخطاب. أعادت بقية الرزمة مكانها وأغلقت الدرج، ثم جلست مستقيمة وجذبت مقعدها نحو المكتب. أخرجت الخطاب من مظروفه وتركته يسقط على ورق النشاف. كان ورقه مصفرا عند الحواف ومطويا على هيئة مربع، وكان من ورقتين مغطاتين من الأمام والخلف بخط رديء متلهف. «أيتها الآنسة كوهين.»
قبل أن ينطق منصف بك باسمها، سمعته إلينورا وهو يتنحنح، وأدركت من صوته أنه كان يراقبها منذ فترة. اتجه إلى الجانب الآخر من الغرفة واتكأ على حافة مكتب الكولونيل، فرأى الخطاب. كان ينظر إليه مباشرة، ولكن فيما عدا نظرته فإنه لم يعترف بوجوده.
سألها وهو يشير نحو الكتاب: «ماذا تقرئين؟»
فأدارت كعب الكتاب نحوه حتى تمكن من قراءة الاسم: «أرسطوفانيس.»
Shafi da ba'a sani ba