تنحنح وابتلع الرشفة الأخيرة في فنجان القهوة، ثم قلب فنجانه على الصحن، وانتظر بضع دقائق تاركا لحبيبات البن فرصة كي تترسب على جانب الفنجان، ثم رفعه عن الصحن واستغرق في تفحص بقايا الخطوط التي تبدو كالأشباح. حدق إلى الحبيبات فترة طويلة وهو يتخلص من البقايا الزائدة، مميلا ما تبقى نحو شعاع من الضوء ، قبل أن تلتقي عيناه بعيني إلينورا.
قال ساخرا وهو ينهض من مقعده: «حظ سعيد! علي أن أنصرف. هل ترغبين في أي شيء أحضره لك من الخارج؟ أي شيء؟»
فهزت رأسها. «كلا، شكرا.»
حدق البك إلى عينيها للحظة، كما لو كان يوجه لها نفس السؤال مرة أخرى بلغة الصمت، ثم تمنى لها يوما طيبا، وغادر المكان تاركا إياها وحيدة مرة أخرى. ظلت طويلا تحدق إلى سطح المائدة، متأملة انعكاس وجهها الضبابي يتحرك على السطح المصقول، والثريا تتدلى فوقها كنصل بلوري. وعندما نظرت لأعلى مرة أخرى، وجدت السيد كروم يقف بجوار المائدة مضطربا مترقبا كما لو كان كلبا يبحث عن سيد جديد. يبدو أنه كان ينوي تنظيف المائدة بعد الإفطار، ولكنه لم يرغب في مقاطعة أحزانها. حملت إلينورا الورقة والقلم، ونهضت من أمام المائدة وانطلقت بعيدا عن غرفة الطعام. شقت طريقها عبر الرواق الرئيس في المنزل، حيث تنظر إليها الوجوه الحزينة لأسلاف البك. كان أول باب وصلت إليه هو باب المكتبة. وقفت تحدق إليه فترة طويلة قبل أن تختبر المقبض، فاستسلم في يدها وأصدرت آلية الإغلاق صوتا. جلست في نفس المقعد البني الفاتح الذي جلست فيه ليلة الحادث. أحقا كان والدها يجلس هنا في نفس هذا المقعد منذ أسبوع فحسب، يحتسي الشاي ويلعب الطاولة؟ أحقا قد تغير الكثير في فترة وجيزة كهذه؟ أطلقت نشيجا ودفعت بأنفها إلى حافة المقعد، محاولة أن تستعيد رائحة والدها، ولكنها كانت قد تلاشت في رائحة الجلد العطري.
على مدار الأسابيع التالية اكتسبت إلينورا برنامجا يوميا، ورغم أنه لم يفلح في تخفيف أحزانها، فقد نجح على الأقل في إصباغ معنى على أيامها. كل صباح بعد الاغتسال، كانت تهبط الدرج متثاقلة حتى غرفة الطعام وتحاول بأقصى جهدها تناول الإفطار الذي لا يزيد عادة على قطعة من الخبز المسطح أو بيضة مسلوقة. وبعد الإفطار، عندما يخرج البك وتنظف المائدة، كانت تشغل نفسها بالتجول في المنزل، وتأخذ غفوة على الأريكة الطويلة في قاعة الاستقبال، أو تقرأ في غرفتها بالطابق الأعلى. قضت ساعات لا حصر لها جالسة بجوار النافذة البارزة، تقرأ «الساعة الرملية» وهي مستندة على فخذيها وخصلة من شعرها تتدلى بين شفتيها، محاولة أن تنقص من وقت المساء بالأدب الذي صار يشبه المخدر الممل بالنسبة إليها. ولما كانت تقرأ الكتاب للمرة الثانية وهي تعلم مصائر الشخصيات في النهاية، فقد وجدت القليل من العزاء في الشعور بأن مساراتنا في الحياة تتحدد طبقا لخطة أعظم مما يمكننا أن نتخيله أو نفهمه. وكل حين وآخر كانت ترفع بصرها عن الكتاب وتستغرق في تأمل سحابة مارة. وفي نهاية المساء، عندما تصل حركة السفن لذروتها، كانت تدع عينيها تسرح حالمة مع قوارب التجديف التي تقطع المضيق أو التقدم البطيء للسفن البخارية التي تنفث دخانها نحو البحر الأسود، ولكنها كانت تقرأ معظم الوقت. كانت تقرأ كي تلهي نفسها، كي تنسى نفسها في عوالم تريستي وبوخارست البعيدة، ولا يذكرها شيء بأن الوقت في عالمنا يمر سوى الأذان والإظلام المتهادي للسماء.
ولما مرت الأسابيع ولم يصل أي رد من روكساندرا على الإطلاق، اتضح أن إلينورا سوف تظل مع منصف بك لفترة غير معلومة. لم يكن ثمة اتفاق رسمي أو عقد أو أي حديث بينهما عن شروط هذا الاتفاق، ولكن كان مفهوما ضمنا بينهما أنها مرحب بها قدر ما ترغب في البقاء. كانت تربطهما علاقة ودية، رغم أن كلا منهما يهتم بشئونه الخاصة معظم الوقت، ولم يكن أي منهما يوجه أسئلة كثيرة للآخر. كل يوم بعد الإفطار، كان البك يغادر المنزل، ولا يعود غالبا حتى وقت متأخر من المساء، وكانا يتناولان العشاء معا ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل. وفي الليالي التي يتناول فيها البك العشاء بالخارج، كان السيد كروم يحضر وجبة خفيفة إلى غرفة إلينورا تتناولها بمفردها قبل أن تطفئ مصباحها وتخلد إلى النوم.
خلال تلك الفترة، كانت السيدة داماكان هي الرفيق الأقرب والأكثر انتظاما لإلينورا؛ فبالإضافة إلى الاغتسال الصباحي، كانت الخادمة تطمئن عليها على مدار اليوم كي ترى ما إذا كانت بحاجة لشيء ما، واستيقظت إلينورا من غفوتها أكثر من مرة كي تجد المرأة العجوز جالسة في المقعد المجاور لفراشها. وفي إحدى تلك الأمسيات، استيقظت إلينورا على صوت السيدة داماكان وهي تترنم بلحن عذب خافت.
قالت بابتسامة صغيرة: «كنت أنشد لك هذا اللحن.»
توقفت السيدة داماكان عن الغناء، ولكن إلينورا ظلت تشعر باللحن يداعب حواف ذاكرتها المرهقة، ثم اختفى كما لو كان طائرا وسط الضباب الكثيف.
الفصل الحادي عشر
Shafi da ba'a sani ba