ربما كان أمر الهداهد سيثير مزيدا من الغرابة ما لم تكن إلينورا نفسها مخلوقا استثنائيا. فعندما كانت رضيعة بين ذراعي مرضعتها، كان يستطيع المرء أن يميز بالفعل اللمحات الأولى التي ستزهر فيما بعد وتتحول إلى جمال أخاذ هادئ؛ متمثل في وجنتيها الجذابتين الحمراوين اللتين تتوجهما بضع خصلات من الشعر المجعد، وعينين خضراوين واسعتين بلون زجاج البحر، وأسنان لبنية كمعكبات العاج الصغيرة. وقلما كانت تصرخ، وقد خطت خطواتها الأولى في الشهر الثامن، وفي عمر السنتين كانت تنطق بجمل كاملة. وكانت تؤثر على المحيطين بها بمنطق طفولي، مع أنه اتسم بالدقة على نحو مذهل، وجذبت قوة حضورها - ذلكم البهاء والنقاء الداخليان اللذان لا يمكن وصفهما - الناس إليها من كل أنحاء السوق محملين برغبة لتقبيل جبهتها فحسب. ورغم هذا التفرد الذي لا شك فيه، كان معظم طفولة إلينورا عاديا للغاية؛ فقد أمضت أيامها تنام وتأكل وتستكشف العالم من حولها، وتلعب باستخدام الملاعق الخشبية والأواني في المطبخ، أو تستغرق في تأمل نقش على إحدى السجاجيد في غرفة المعيشة.
ومن بين ذكريات إلينورا المبكرة الحكايات التي كان والدها يقصها عليها أحيانا بعد العشاء. فعندما كانت تتسلق حجره، كانت تستطيع أن تشعر بملمس سترته الصوفية الخشنة على ذراعها. صوت طقطقة النيران، ورائحة الجلد البالي للمقعد، وروكساندرا ترتق الملابس في زاوية الغرفة. وقبل أن يستهل يعقوب قصته، يضع يده في جيب معطفه، ويخرج حفنة ضئيلة من قطع التوباكو الصغيرة، ثم يحشوها في غليونه بالجانب المسطح من إبهامه . وكانت فوهة الغليون على شكل رأس أسد لونه بني مذهب، منحوت من حجر يسمى المرشوم. حبست إلينورا أنفاسها، بينما أخرج والدها علبة الثقاب من جيب معطفه، وأشعل أحد أعواد الثقاب، وقربه من التاج الذي يعلو رأس الأسد. بدا هذا المشهد كما لو كان طقسا من الطقوس القديمة وهم الوحيدون المتبقون لحراسة أسراره. وبعد أن سحب عدة أنفاس من الغليون لإحمائه، وضع إحدى يديه على كتفها وسألها إن كانت تبتغي أن تسمع قصة. وبالطبع، كانت توافق دائما.
كانت قصص أبيها تدور حول الحكماء والرحالة والتجار والحمقى، وكانت قصصا عن بوخارست وباريس وفيينا وجميع المدن البعيدة الأخرى التي زارها في ريعان شبابه، ومدن أخرى مثل لانتشو وأنديجان وبرسبوليس وسمرقند؛ مدن ذات حدائق معلقة، وبروج شاهقة تطاول عنان السماء، وناس أكثر مما يمكنك أن تتخيل؛ مدن بها نمور تتربص في الظلال، وأفيال تدب وسط الشارع؛ مدن قديمة قدم الجبال تعج بالسحر الخير والشرير. لقد زار والدها كل أنحاء العالم، وشاهد أماكن أكثر مما يستطيع حصرها، لكن مدينته الفضلى عن كل المدن الأخرى كانت محور ارتكاز القارات العريق، موطن آيو وجوستينيان، موضع حسد قنسطنطين وسليم، لؤلؤة البوسفور، الجوهرة المتلألئة في مركز الإمبراطورية العثمانية. كانت مدينته الفضلى هي إسطنبول، وهناك دارت أحداث أفضل حكاياته.
بخلاف قصص والدها، تمثلت أولى ذكريات إلينورا في واقعة حدثت بعد عيد ميلادها الرابع مباشرة. كان عصر يوم كئيب هادئ في مطلع الخريف، عندما لاحظت للمرة الأولى قوة تركيزها. جلست إلينورا القرفصاء تحت أقدام الطماطم المعترشة، وهي حافية القدمين، ترتدي ثوبا بسيطا أحمر اللون مصنوعا من القطن، تحفر بأصابعها حفرة في الأرض الرطبة المتكتلة. هب على التل نسيم دافئ، وكانت الهداهد تلغو فيما بينها، ومن الخلف يمكن للمرء أن يرى الطريق المؤدي إلى نافوداري. وكانت قد أمسكت لتوها بحشرة رمادية لامعة، وأخذت تشاهدها وهي تبسط جسدها في راحة يدها، بينما تناهى إلى مسامعها صوت خشخشة قادم من حافة الحديقة. كان ظبي يطل في تردد برأسه من الغابة. شاهدته وهو يخطو خطوة للأمام نحو رقعة البصل، ثم نصف خطوة إلى الوراء. ولم تكن رؤية ظبي في الحديقة بالشيء الغريب، لكن ثمة شيء ما في هذا الظبي الصغير بعينه لفت انتباهها. وبعد مراقبته لبضع دقائق وهو يتحرك وسط أشجار الطماطم، قررت أن تتبين أمره.
أعادت إلينورا الحشرة إلى حفرتها، ثم نهضت وعبرت الحديقة. لم يتحرك الظبي، مع أنه بدت عليه أمارات القلق لكونه على هذه الدرجة من القرب من إنسان. وقفت إلينورا على حرف رقعة البصل، على مسافة أقل من ذراع من الظبي، فاستطاعت أن تشعر بأنفاسه الدافئة الرطبة على جبهتها. ونظرت إلى ثبات عينيه اللامعتين، ثم مدت يدها ببطء لتضعها عند الجزء السفلي من رقبته. ظل الظبي ساكنا في مكانه. وبخلاف رجفة فتحتي أنفه وانبعاث نفسها الخفيف، وقف كلاهما بلا حراك تماما.
عندئذ، وفي حركة واحدة، أخذ الظبي خطوة إلى الوراء وخفض قرنيه، رافعا ساقه اليسرى كما لو كان جنديا يقدم سلاحه للمعاينة. وعلى الفور أدركت إلينورا سبب انزعاج الظبي، وعرفت ما عليها أن تفعله. كانت توجد فوق حافره مباشرة شوكة؛ قطعة معدنية معقوفة مدفونة على عمق كبير داخل اللحم. بدا الظبي وكأنه قد اخترق أحد الأسوار، أو لعلها أداة صيد علقت به. أزاحت إلينورا خصلة شعر عن عينيها، ثم أمسكت بالطرف المجروح بيدها وتفقدت الجرح. كانت الأوردة المحيطة به تنبض بشدة، وتجمعت رغوة بيضاء على القطعة المعدنية. انتصب شعر ساق الظبي حين قربت إلينورا يدها الأخرى منها. ثم طرفت بعينيها، وبسحبة واحدة سريعة انتزعت الشوكة.
بينما كانت إلينورا تشاهد الظبي وهو يقفز بعيدا عبر الغابة، اقشعر بدنها للتفكير فيما فعلته توا. راحت الهداهد فوقها تغرد بصوت مبحوح، وبدا صوت انسحاق الأعشاب تحتها كأنه تصفيق خفيف، ولكن الاحتفاء بها لم يدم طويلا؛ فبعدها بلحظة أمسكت من تحت إبطيها وحملت إلى الحمام.
قالت روكساندرا وهي تنزع عنها فستانها: «ممنوع منعا باتا أن تفعلي هذا مرة أخرى، فلو عرف هذا الخبر ...»
وقفت إلينورا مطأطئة رأسها ترتعش في منتصف الحمام، بينما كانت روكساندرا تعد لوفة الاستحمام. لم يسبق أن رأت إلينورا خالتها في تلك الحالة؛ فقد بدت مرتجفة، بل كادت تكون مرتعدة. «ماذا تقصدين يا روكساندرا؟ ما الذي جنيته؟»
بدلا من أن تجيبها، أخذت روكساندرا تحك جسدها بقوة باستخدام لوفة مبللة بالصابون، بادئة بالذراعين ثم اليدين، ولا سيما بين الأصابع.
Shafi da ba'a sani ba