( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ) أما الذين شاهدوا بنعت الاصطفاء في مشاهد الأزل ، ورأوا جمال مشاهدة الحق ، وسمعوا كلامه ، فيعلمون أن القرآن حق من ربهم ؛ لأنهم صادقوا حقيقة مقام التصديق بنعت الأرواح قبل كون صورتهم ، وبعد كونها قابلوا الآخر بالأول ، والأول بالآخر ، وجدوا صرفا صدقا ، فاستقاموا في الصدق والإخلاص حين سمعوا خطاب الحق.
( وأما الذين كفروا ): الذين لم يبلغوا مقام المشاهدة ، وقفوا في بحر الأشكال ، ولم يهتدوا بضرب الأمثال.
( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ما ذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين (26) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28))
قوله تعالى : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ): القرآن بحر عجائب الربوبية ، وأخبار غرائب أسرار صفة القدسية ، فمن كحله الله بكحل نور الحقيقة ، يرى بعين السر عرائس مشاهدات الصفات ويعشق بها ، ويبقى في طلب مزيد حقيقة علومها ، ويندرج بمهجته تحت أحكامها برسم العبودية ، ومتابعة المخاطبة ، ومن أعمى الله قلبه عن مشاهدة تجلي كتابه ، يضل في طريق النكرة ، ويغرق في بحر الضلالة.
وقيل : بين العبد وبين الله بحران : بحر الهلاك وبحر النجاة ، وقد يهلك في بحر النجاة خلق كثير ، كما قال : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ).
( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ): الإشارة فيه إلى حال أهل الفترة الذين سلكوا طريق أهل القصد ، ثم رجعوا إلى ما عليه عادة العوام من الرخص والتأويل ، فمن هذا شأنه ، فقد زاغ عن محجة المشاهدة ، وتحير في أودية الغفلة ، وتهيم في سراب الفقدان محجوبا عن مشاهدة الرحمن.
( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) أي : كنتم أمواتا في قبور العدم ، فأحياكم بأنوار القدم.
وأيضا كنتم أمواتا في غطاء الغفلة ، فأحياكم بروح المعرفة.
Shafi 39