Larabci Tsakanin Al'adu Biyu
عربي بين ثقافتين
Nau'ikan
وهل تسألني: وماذا تريد منا أن نصنعه؟ إن الذي أريده ولو على سبيل التمني والرجاء، هو أن ينتقل رواد الثقافة فينا من موقف المتفرج إلى موقف اللاعب.
العربي اليوم غامت رؤيته
سؤال تلقيته على امتداد السنين. لا أقول مرة أو عشر مرات أو مائة، بل تلقيته مئات المرات، هل للعربي فلسفة؟ وإذا كانت فما هي؟ ولو كان السؤال آتيا ممن لا يعرف عن الفلسفة رأسا ولا ذنب، لهان الأمر؛ لأننا عندئذ نحيل جهله بالموقف العربي في هذا الشأن إلى جهله بعالم الفكر الفلسفي في جملته، دون أن تأخذنا الدهشة من سؤاله، ولكنه كثيرا ما أتانا السؤال من دارسيها، مما يدل على أن الأمر كان لا بد له من وقفة دراسية فيها الدقة والشمول، لكننا لم نفعل كأنما الأمر أهون من أن يثير اهتمام الدارسين، ولكن من أين تجيء إليه أهميته؟ هكذا قد سأل سائل فنجيب قائلين:
الفكر الفلسفي في جوهره إنما هو «تأصيل» ظواهر الحياة السابحة على السطح المنظور لنردها إلى عمق نجد فيه «الينبوع» الخفي، الذي فيه انبثقت تلك الظواهر التي رأيناها على سطح الحياة اليومية متفرقة وكأن الظاهرة الواحدة منها لا شأن لها بأخواتها. أما وقد كشفنا - بالفكر الفلسفي - أساسها الواحد المشترك الذي أقيمت عليه جوانب حياتنا المختلفة جميعا، كما تتفرع فروع الشجرة من جذعها، فعندئذ تتبلور الرؤية وتتضح؛ لأننا على الأغلب واقعون على صفة مشتركة تصف جميع ظواهر حياتنا، فنرى بأعيننا أين تقع بين أفراد الأمة الواحدة روابط الرحم كما نرى كذلك المميز الأساسي الذي يميز أمة من سائر الأمم في لفتاتها وحركاتها وسكناتها.
على أن الأمة الواحدة وإن تكن وحدانيتها تلك ظاهرة - على الأرجح - في طريقة تفكيرها على امتداد تاريخها، إلا أن هذا التاريخ الواحد نفسه، مع محافظته على الأساس الواحد، قد يتشكل بألوان متباينة مع تباين الظروف في كل عصر على حدة، هذا من جهة الأمة الواحدة المعينة، ومن جهة أخرى بالنسبة إلى مجموعة الأمم التي تتعاصر معا في ظروف عصرها؛ فإنك لا بد واجد بينها في كل عصر على حدة، وبرغم اختلافاتها النوعية، عنصرا مشتركا يلفها جميعا في مناخ متشابه ما دامت تعايش عصرها، ولم تتخلف عنه مرتدة إلى ماضيها. ونضرب لك مثلا يوضح لك هذا القول (عصرنا القائم)، فانظر إلى كل أمة ممن يشاركون في بنائه، تجد لها في أعماق حياتها قاعا من خطها التقليدي الثابت، مع اشتراكها مع غيرها فوق ذلك الخط الثابت في مناخ فكري متجانس، هو المناخ الذي تتميز به حضارة هذا العصر القائم، فلئن كانت الولايات المتحدة الأمريكية، وإنجلترا، وفرنسا، والروسيا، واليابان - مثلا - مشتركة كلها فيما يقتضيه مناخ هذا العصر بعلمه وصناعته من صفات لا مفر من التكيف لها إذا أراد الإنسان أن يتحقق النجاح الذي يرجوه؛ فكل واحدة منها تعود بعد ذلك فتلوذ بحبلها الممتد مع تاريخها لتعتصم به فتأمن من الزلل؛ فالولايات المتحدة الأمريكية «براجماتية» الطابع، بمعنى أنها تميل إلى الحكم على الفكرة المعينة بنتائجها لا بأصول نشأتها. والإنجليزي واقعي؛ فالنظرة في حكمه على الأفكار للتمييز فيها بين ما أصاب وما أخطأ، بمعنى أنه يبحث للفكرة عن مصادرها الحسية التي عنها تولدت الفكرة، فإذا وجد لها سندا تدركه الحواس كانت مقبولة، وإذا لم يجد قال: إنه لا حس هنا وإذن فلا معنى. إذ «الحس» والمعنى عنده شيء واحد، ويشير إليهما باسم واحد في لغته. والفرنسي على خلاف الإنجليزي لا يطمئن للفكرة إلا إذا تعقب نسبها إلى منابتها في منطق العقل الخالص، مما قد يترتب عليه أن يكتفي الإنجليزي لقول الفكرة بأن تكون «مرجحة» الصواب، وأما الفرنسي فتطمئن نفسه إذا وجد «اليقين»؛ فمجرد الترجيح هو من شأن الحواس في طريقة إدراكها، وأما اليقين فلا يتحقق إلا إذا أقيمت على الفكرة براهينها المستندة إلى العقل ومنطقه في استدلال تلك الفكرة من سابقة لها مؤكدة الصواب. والياباني فوق مشاركته لقادة العلم والصناعة في عصرنا بكل ما يقتضيه ذلك من خصائص يرتد إلى سند من تقاليده الثقافية يستريح له، وهو سند تغلب عليه نزعة الذوق الفني والانتماء الأسري الدافئ. وأما الروسي، فقد عرفناه حتى أوائل هذا القرن ريفي النظرة تحكمه أقلية أرستقراطية على رأسها قيصر، فلما ثار ثورته سنة 1917م ليدخل القرن العشرين، أخذ منه العلم والصناعة فساير بهما سائر أقطار الغرب وأزاح عن صدره عبء الأرستقراطية وحكم قيصر، إلا أنه لم يرتد إلى مناخه الريفي الذي كان، أو قل إنه وسع من قاعدة الروابط الأسرية التي عرفتها الحياة الروسية، كما عرفتها كل أرض تغلب عليها الزراعة والقرى، بحيث أراد أن يجعل الأمة كلها أسرة واحدة ترتبط بما يشبه الروابط الأسرية القديمة نفسها مع اختلاف الأسماء، لكنه يبدو أنه أسرف في هذا التحوير حتى خرجت حياته عن عرفها السابق، فأنتج ذلك ما أنتجه. وها نحن أولا نرى الروسي اليوم يعيد النظر. وهذا القول الذي نقوله عن الروسيا، يصدق مثله على الصين.
فماذا عن العربي كما نراه اليوم - وكما رأيناه في أمسه؟ لعلك تذكر شيئا مما كنا قد تذاكرناه معا في حديثنا عن «العروبة» وخصائصها، وهي خصائص تميز المنطقة الشرق أوسطية بأسرها منذ أقدم التاريخ، سواء استخدمت لها كلمة «عروبة» أم لم تستخدم؛ فاسم «العروبة» أحدث من النمط الثقافي ذي الخصائص التي أشرنا إليها وحددناها في مجالات التدين والفن والأخلاق، وأسس النظام الاجتماعي، واللغة من حيث طرق اشتقاق مفرداتها وتركيب تلك المفردات في جمل.
وغير ذلك من الأصول التي تبنى عليها الثقافات؛ فقد كان بين ما ذكرناه عن النمط الثقافي الذي تحيا في إطاره هذه المنطقة الجغرافية كلها، أن مفتاح هذا النمط مستمد من خصائص الصحراء في لا نهائيتها التي تبدو للبصر وتحسها البصيرة. ومع تلك اللانهائية يضاف الثبات وعدم التغير إلا في أضيق الحدود؛ فالشمس ساطعة لا يحجبها سحاب، والسماء زرقاء، حتى إذا ما نشر الليل سواده لمعت النجوم واضحة بسامرها المقيم ويهتدي بها المسافر.
وأما معالم الأرض فيومها يشبه أمسها؛ السهل هو السهل والنجد هو النجد والكثيب هو الكثيب. ومن هذه اللانهائية الثابتة استمد ساكن الصحراء مفتاح هيكله الثقافي في أصوله ودعائمه.
فلا غرابة أن يكون الإيمان الديني في هذا النمط الثقافي أصل الأصول وركيزة الركائز منذ فتح له التاريخ صفحاته، وعلى امتداد العصور بعد ذلك؛ وذلك لأن التأثر بلانهائية الكون وثباته، استنادا إلى رؤية العين، وإدراك البصيرة، يهيئ النفس للإيمان بالله الخالق الواحد الأحد الصمد، إذا ما نزل الوحي بهذه العقيدة على نبي أو رسول؛ فلم يكن غريبا أن مثل هذا الوحي لم ينزل على أنبياء ورسل إلا في هذه المنطقة، فكان للدين الذي أوحي به خصائص تميزه عما بشر به أصحاب الديانات الأخرى في سائر أنحاء الأرض. والذي يهمنا من هذه الحقيقة في سياق حديثنا هذا هو أن أصبح مرجع العربي - أو قل ساكن هذا الإقليم الصحراوي الممتد من المحيط غربا إلى الخليج شرقا - هو ما أوحي به إلى أنبيائه ورسله، مما يحقق له ما كانت فطرته قد انفعلت به، من لانهائية الحقيقة وثباتها.
فقد يجد العربي أن إدراكه لما حوله تتفاوت درجاته من حيث اليقين؛ فليس ما يعلمه عن طريق الرواية ناقلا عن ناقل، مساويا في درجة التيقن من صوابه لما يعلمه عن طريق الحس المباشر بإحدى الحواس من سمع أو بصر أو أية حاسة أخرى، وليس هذا الذي أدركه بالحواس مساويا في درجة التيقن من صوابه لما يدركه بالعقل استدلالا منطقيا سليما؛ فنحن حين نعلم أن زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، لا نقنع بصحة ذلك اعتمادا على مثل نرسمه على ورقة أمامنا ونقيس زواياه بمقياس تراه العين، وإنما نلجأ في ذلك إلى إقامة البرهان «العقلي» على صحة هذه الحقيقة الرياضية عن المثلث وزواياه. وهنا قد يميل النمط الثقافي العام السائد في أمة معينة بأصحابه إلى الوقوف عند ما قد أثبته العقل بالدليل البرهاني، فلا يتساءلون بعد هذه النهاية في درجات اليقين - قائلين - لأنفسهم: وماذا فوق ذلك من درجات؟ ولكننا قد نجد كذلك نمطا ثقافيا آخر، يسود أمة أخرى، يميل بأصحابه نحو ذلك التساؤل، ومن هذا القبيل نمط الثقافة العربية - وأعني الشرق أوسطية - فرجل كالإمام الغزالي، عندما أخذ (في كتابه «المنقذ من الضلال») يفصل القول في درجات الإدراك من حيث صحة ذلك الإدراك عندما وصل به التصاعد إلى درجة الإدراك «العقلي» لم يجده كافيا لليقين، مما اضطره إلى افتراض درجة أعلى، عندها تتم طمأنينة القلب بأن ما أثبته العقل هو صحيح، وكانت تلك الدرجة الأعلى عنده هي - كما عبر هو عنها - «نور يقذفه الله في القلب»، وهي درجة تدخل بالإنسان في دائرة الإدراك الصوفي.
Shafi da ba'a sani ba