Larabci Tsakanin Al'adu Biyu
عربي بين ثقافتين
Nau'ikan
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق (هذه هي أولى القراءتين)
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم (وهذه هي القراءة الثانية)، وكلتا القراءتين عملية عقلية علمية؛ فعلم بخلق الله للإنسان أولا، وعلم بما خطه قلم الإنسان ثانيا. لكنهما إلى جانب كونهما «علما» يقتضي من صاحبه إعمال العقل فهما في الوقت نفسه «دين» يوجب على المتدين به واجبا مفروضا. ونكتفي بهذا المثل مما يمكن استخراجه من الكتاب الكريم، أدلة نتبين منها طبيعة «الرؤية» الإسلامية لحياة الإنسان، مما يوضح لنا جانبا من أهم الجوانب التي يتألف منه حقيقة «العروبة» وجوهرها.
لقد كان «العربي» (وأعني ساكن هذه الرقعة الفسيحة من الأرض الصحراوية الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، بما يتناثر فيها من أرض خضراء بزرعها، قد تكبر حتى تكون وديانا لأنهار جاءتها من خارج حدودها، وقد تصغر حتى تكون واحة صغيرة) أقول إن أهل هذا الامتداد الجغرافي الواحد، قد أظهروا خلال تاريخهم الثقافي الطويل، قدرة لا تقاس إليهم فيها شعوب أخرى كثيرة، على دمج الدين والعلم في موقف واحد وظهر ذلك بصفة خاصة في ظل الإسلام؛ لأنه دين نص نصوصا مباشرة على وجوب إعمال المسلم لعقله، في تدبر خلق الله من حوله. وقد يجدر بنا في هذا الموضع من سياق الحديث، أن نشير إلى حقيقة ثقافية شهدها التاريخ، وكانت لها آثارها في مجرى الأحداث، وهي ذلك التباين الحاد في وجهة النظر العامة بين اليونان القديمة وجارتها فارس (وهي اليوم «إيران») مما أدى إلى حروب بينهما، ومدار ذلك التباين هو غلبة التفكير العقلي ووضوح أحكامه في اليونان، وغلبة الرؤية الصوفية المغلفة بضباب الغموض على الفرس. وأرجح الظن أنه عندما خرج الإسكندر الأكبر بجيشه من اليونان، مستهدفا أن يجمع العالم المعروف له تحت لواء ثقافي واحد، كان المقصود بذلك أساسا هو أن يطوع جارته فارس للرؤية «العقلية». وربما كان التقسيم الجزافي الغامض، الذي يقسم به العالم إلى «شرق» و«غرب» بحيث يتضمن هذا التقسيم أن تكون كلمة «شرق» هنا دالة على ثقافة تغلب عليها العاطفة الذاتية، وأن تكون كلمة «غرب» دالة على ثقافة من نوع آخر إذ تغلب عليها دقة التفكير العقلي وموضوعيته ووضوحه، أقول إنه ربما كان هذا التقسيم راجعا في الأصل إلى ما كان بين يونان وفارس من تباين ثقافي أدى إلى ما أدى إليه من خلاف بلغ حد القتال، ثم جاء «الغرب» الحديث والمعاصر ليظل على ذلك الرأي في تصنيف الشعوب وثقافتها، مع تفرقته بين ما هو «أقصى» في بلدان الشرق وما هو «أوسط» و«أدنى»، متجاهلا الموقف العربي وطبيعته التي جاءت لتدمج الطرفين في صيغة واحدة، ولكن لماذا نعجب من أهل «الغرب» في تمسكهم بهذا التقسيم الثقافي، إذا كان العرب أنفسهم يتبنون هذا التقسيم ويتحمسون له، وعلى أساسه يقبلون فكرة ويرفضون أخرى، وبذلك تضيع منهم حقائق الأمور، بما فيها حقيقة أنفسهم؟
وحقيقة العربي في موقفه، كما يشهد بذلك تاريخه، هو أنه شرق وغرب معا، فلا هو إلى عاطفة صرف، ولا هو إلى عقل صرف. ولنا أن نتعقب ما أنتجه أعلامنا الأقدمون لنتبين في وضوح أن النظرة الفعلية، وما يتبعها من «علم» في شتى الميادين كانت هي الغالبة، لكنها كانت «مبطنة» بالوجدان (إذا صح هذا التعبير) ففضلا عن نبوغ أفراد منهم في مجال العلم وحده، ونبوغ أفراد آخرين في مجال التصوف وحده، فإن اندماج الجانبين في ناتج واحد أمر مألوف بينهم، فإذا كانت اليونان القديمة قد تميزت بالتفكير العقلي الصرف متمثلا في علومهم وفلسفتهم، فقد ترجم العرب عن اليونان معظم تلك العلوم والفلسفة، مما يدل على قدرة العربي على تمثل المحصول العقلي وهو في أعلى ذروته. ولا أظن أن شيئا يذكر من تلك العلوم والفلسفة قد ترجمته الهند أو الصين رغم ما كانتا عليه من حضارة، مما يدل على قابلية العربي للنظر العقلي المجرد. وفي الوقت نفسه قام العرب الأولون بنقل التصوف عن أعلامه من فرس وهنود، مما يبين أن العربي في طبيعته استعداد لمثل هذه الوقفة. على أن ما يهمنا هنا في المقام الأول، ليس هو أن تقوى الطبيعة العربية على تقبل هذا الجانب العقلي وحده متمثلا في أفراد، وعلى تقبل ذلك الجانب الصوفي وحده متمثلا في أفراد آخرين، بل الذي يهمنا في سياق حديثنا هذا هو أن نرى الجانبين معا مجتمعين في كل عربي، بدرجات تتفاوت مقاديرها، وتلك هي إحدى السمات الهامة، التي تتميز بها «العروبة» من حيث هي «موقف» ثقافي فريد، لا هو «شرق» ولا هو «غرب» ولكنها عروبة العربي.
هكذا جاءت للعربي، أو إن شئت فقل جاءت للشرق أوسطي، قاعدته الأولى التي ارتكز عليها لينطلق في أجوائه الثقافية من أرضه وسمائه؛ فأرضه منبسط صحراوي لا تحده حدود البصر، اللهم إلا وديانا شقتها أنهار نبعت من مصادر خارج الحدود، وأما سماؤه فصافية معظم الزمن، فجال فيها النظر ليرى عالما آخر لا تحيط بحدوده عين. مع هذه اللامتناهيات تحت قدميه وفوق رأسه، نزلت ديانات وحيا من الله سبحانه وتعالى على أنبياء ورسل تعاقبوا دهرا بعد دهر مدى قرون طوال، تنادي الإنسان أن آمن بإله واحد أحد خلق السموات والأرض وما بينهما، فتكونت عند ساكن هذه الرقعة المباركة من الأرض، خبرة وعقيدة؛ خبرة مما يرى، وعقيدة مما أوحي إلى الأنبياء والرسل، ومؤداهما معا هو أن يضع بين يديه تلك «المبادئ» الكبرى، التي هي خبرة نفسية وديانة روحية في آن معا، ومن تلك المبادئ المطلقة له أن يشتق ما استطاع أن يستنبطه لنفسه من نتائج وقوانين، تكون هي قواعد سلوكية من جانبها الأخلاقي ، كما تكون هي علومه العقلية التي يستضيء بها طريقه إلى معرفة ظواهر الكون معرفة صحيحة.
وبرع العربي في هذا الموقف الاستنباطي، الذي ينتزع النتائج من مبادئها، لكنه على مر الزمن، حفظ شيئا ونسي شيئا، وكان الذي حفظه جيدا هو أن يجيد قراءة ما خطه قلم، ليستخرج من كلماته وعباراته ما يتولد عنها مما كان كائنا في جوفها، وأما الذي نسيه - على الأعم الأغلب - فهو قراءة «الأشياء» قراءة مباشرة. و«الأشياء»، أو الظواهر، هي خلق الله عز وجل، أمره الدين أن يقرأها ليستخرج سرها المكنون ما وسعه ذلك. ومن الجانب الأول الذي حفظه العربي وبرع فيه تكونت معارفه وعلومه في معظم الحالات، إلا جانبا صغيرا قرئت فيه «الأشياء» فكان أن ظهر للعرب علماء الفلك، والكيمياء، والضوء، والطب. وأما الجزء الأكبر من علوم الطبيعة فقد تولاها الغرب وحده بعد نهضته من عصوره الوسطى، وأخذ العربي ينقلها عنه إلى يومنا هذا. وإننا إذ نذكر هذا، فإنما نذكره لنتذكر به أن هدفنا ليس هو الإشادة العمياء بالعربي وموقفه، بل هو مجرد الوصف لما هو واقع، لنؤيد صحيحه، ونصحح أوجه النقص فيه.
وما دمنا قد ذكرنا «الواقع» وحقيقته، فها هنا سؤال يطرح نفسه عن نصيب هذا الواقع والاهتمام به من موقف العربي. وإنه لسؤال له خطورته ويتطلب الروية في الجواب، وذلك لأن نضج العقل، الذي نطلق عليه عادة في حياتنا العملية اسم «سن الرشد» وهي السن التي إذا بلغها شاب، أصبحت له حقوق في المجتمع الذي يعيش فيه، وأصبحت عليه واجبات، فترفع عنه الوصاية، ويكون حر الإرادة في تصريف شئونه، ويكتسب حق الانتخاب، ومن جهة أخرى يحق عليه التجنيد والدفاع عن وطنه وهكذا. كل هذه الحقوق والواجبات تنشأ عند سن «الرشد» على افتراض مضمر، هو أن الإنسان عند تلك السن يكون قد خرج من مرحلة المراهقة الحالمة، ودخل مرحلة النضج العقلي، الذي يتميز أول ما يتميز، بانضباط العلاقة بين الإنسان والواقع، فيرى الحقائق الواقعة كما هي واقعة، لا يتوهم فيها ما ليس فيها، ولا يغض النظر عن جانب من جوانبها، ليستطيع بعد ذلك أن يقبلها عن علم بها، أو أن يعدلها على أساس علمه بها.
لكن أفراد الناس، وكذلك الشعوب، يتفاوتون في القدرة على إدراك الواقع على حقيقته؛ وبالتالي فهم يتفاوتون في القدرة على تغييره إذا وجب عليه أن يتغير. وفي هذا السياق يأتي سؤالنا: ما نصيب «الواقع» ودقة إدراكه من «الرؤية» العربية التي منها تتألف «العروبة» ومعناها؟
قد يتساءل القارئ همسا لنفسه: وهل شهدت الدنيا إنسانا، بل هل شهدت كائنا حيا على إطلاق من نبات أو حيوان، فضلا عن الإنسان، قد تجاهل «الواقع» الذي يحتويه، فمن هذا الواقع يأكل الكائن الحي طعامه، ويشرب ماءه، ويعد مأواه الذي يعتصم به، وسائر شئون حياته صغيرها وكبيرها؟ فمن أين يجيء السؤال - إذن - عن علاقة العربي بواقعه الذي يعيش فيه؟ وهنا يكون المتسائل قد فاته إدراك فارق هام بين فوارق عديدة تميز الإنسان دون سائر الأحياء، وهو فارق «الخيال» الذي قد يعلو في مرتبته فيصبح وسيلة إبداع للعالم والأديب والفنان؛ إذ هو عندئذ خيال يضم الأجزاء المتفرقة لتصبح بناء واحدا؛ نظرية علمية، أو قصيدة من الشعر، أو معزوفة موسيقية، وهكذا، ولكنه كذلك قد يهبط في مرتبته ليصبح أخلاطا من تهاويم لا تبني شيئا؛ وبالتالي تكون أوهاما وهلوسة لا تعني شيئا، إلا أن تضل صاحبها عن سواء سبيله؛ لأنها تصرفه عن واقع الأشياء فلا يراها كما هي واقعة. وإن الأفراد ليتفاوتون، كما تتفاوت الشعوب بوجه عام، في النشأة والتربية والاستعداد الفطري، تفاوتا يؤدي بهم إلى تفاوت في القدرة على التعامل مع وقائع الأشياء على حقائقها، حتى لقد رأى عالم النفس «وليم جيمس» أن أفراد الناس يمكن قسمتهم قسمين من حيث الرؤية العامة لدنياهم، والتصرف في حياتهم العملية على أساس هذه الرؤية، ويطلق على أحد القسمين عبارة «أصحاب الأدمغة الصلبة»، كما يطلق على القسم الآخر عبارة «أصحاب الأدمغة اللينة»، وهو يدرج تحت القسم الأول رجال العلوم الرياضية والطبيعية، ورجال الأعمال على اختلافهم، وقادة الجيوش وهكذا، وكلهم يلتزم حدود الواقع أمام أبصارهم وتحت أيديهم، حتى وهم يحاولون تغييره ليصبح واقعا آخر؛ إذ كيف تغير شيئا إذا كنت ساهيا عن حقيقته الراهنة؟ وأما تحت القسم الثاني فهو يدرج المتصوفة، والشعراء، ورجال الأدب والفن بصفة عامة، لأنهم بحكم مزاجهم المجبول في فطرتهم، يهربون من خشونة الواقع وقسوته وغلظته، ويقيمون بما يبدعونه واقعا جديدا، ينتزعونه من خيالهم انتزاعا ليعيشوا فيه.
فليس الأمر - إذن - من قبيل اللغو أن نسأل عن العربي ما موقفه من «الواقع»؟ وليس من شك في أن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال تهدينا إلى التصور الصحيح لما أسميناه ب «العروبة». على أن الرأي الصحيح في هذا - فيما يبدو لهذا الكاتب - ليس قريب المنال، مما يتطلب منا شيئا من الروية والتدبر؛ فالعربي - من جهة - «شاعر» في المقام الأول، ولكنه - من جهة أخرى - مضطر بحكم بيئته الصحراوية المتجانسة تجانسا شديدا، أن يدقق النظر ليقع بصره على ما يميز جزءا من جزء، وإلا فالأرجح أن يضل الطريق إذا ما انتقل من مكان إلى مكان. إنه يلحظ معالم الأرض، كما يلحظ مواقع النجوم، ويركز انتباهه فيما يتميز به الحيوان، والطير، واتجاه الريح، وغير ذلك من مكونات بيئته. ولك في هذا الصدد أن تراجع ذاكرتك فيما تحفظه من شعر الأقدمين، لترى كم ترد في سياقه لقطات حسية دقيقة التصوير لما يراه العربي وما يسمعه.
Shafi da ba'a sani ba