Larabci Tsakanin Al'adu Biyu
عربي بين ثقافتين
Nau'ikan
ونعود إلى ابن عربي في كتابه «الجمال والجلال»؛ فقد استخرجه هذا الكاتب من خزانته فوجده كتابا صغيرا، بحيث يمكن قراءته في بضع ساعات، فانكب عليه ليقرأ، وإذا بالمعنى المقصود عند المؤلف هو مما لا يطرأ على بال الباحث في يومنا ف «الجمال» الذي يتحدث عنه ابن عربي، هو مجموعة الآيات الكريمة التي تبشر المؤمنين برحمة الله وعفوه وغفرانه وحسن ثوابه. و«الجلال» عنده هو مجموعة الآيات الكريمة التي تتوعد الكافرين بجهنم وسعيرها. على أن ابن عربي يبين لنا كيف تجيء آيات الجمال وآيات الجلال في الكتاب الكريم متعاقبتين فواحدة من هذه تتبعها واحدة من تلك.
وهكذا عاد هذا الكاتب إلى حيرته بالنسبة إلى معنى «الجمال» كما يريده المصطلح السائد. وهو مصطلح - كما ذكرنا - يشير إلى الجمال - بين جوانب أخرى - من حيث هو قيمة ضابطة للحلقة الوسطى، التي هي مكمن الجانب الوجداني من الإنسان، فبأي معنى نفهم هذا المصطلح في هذا السياق؟ وعلى أي أساس يتم انضباط الحياة الوجدانية وترشيدها؟ هنا قد يساعدنا أن نذكر استخدامات مختلفة في لغتنا لكلمة «جمال» وما يشتق منها؛ فمن هذه الاستعمالات للكلمة يجوز أن ينبثق معناها المقصود حين تجيء اسما يسمى «قيمة من القيم الكبرى الثلاث الضابطة لحياة الإنسان الفكرية والعملية على السواء. وهي الحق والجمال والخير.» فنحن نعزي من أصابته كارثة بقولنا: صبرا جميلا. ونذكر بين فضائل السلوك «عرفان الجميل»، ونقول إن فلانا يجامل فلانا. ونقول إنه «يجمل» بنا أن نفعل كذا. ألا ينبثق لنا من هذه الاستعمالات المتباينة معنى «الرحمة» و«العون» وتخفيف العبء عن المكروث؟ وكلها معان تتفق مع اتجاه ابن عربي في تناوله ل «الجمال» في الكتيب الذي أشرنا إليه. وإذا كان هذا هو المقصود، فأظن أن شيئا من الفهم الصحيح لمعيار الجمال من حيث هو إحدى القيم الكبرى الثلاث؛ إذ يناط به ترشيد الحياة الوجدانية عند الإنسان إلى طريق مستقيم، فإذا نظرنا على ضوء هذا المعنى إلى مختلف العناصر التي منها يتألف مضمون الحلقة الثانية، وهي التي جعلناها مرحلة وسطى في الحياة الإنسانية بين «المعرفة» من ناحية والإجراء السلوكي لما قد عرفناه من ناحية أخرى، أقول إننا إذا نظرنا إلى عناصر تلك الحلقة الوسطى ووجدناها تتباين في غرائز، وانفعالات، وعواطف واعتقادات فيما يجب وما يجوز وما يمتنع، وجدنا معنى مفهوما في ترشيد هذه المتباينات كلها بضوابط «التسامح» أو «العفو» أو الرحمة أو المواساة أو غير ذلك من الصفات التي تجري مجراها. وإذن فذلك هو معنى «الجمال» حين يكون معيارا بين معايير ثلاثة أجمع كل ذي شأن على أنها هي الضوابط التي منها وفي إطارها ينشأ الإنسان في أكمل صورة إنسانية ممكنة.
ولعلك تستطيع الآن أن ترى كيف تتفاوت درجة الدقة في تحديد المعنى بين قيمة «الحق» في مجال المعرفة والعلم، وقيمة الجمال في مجال الجانب الوجداني من حياة الإنسان؛ فبينما نجد معايير الصدق العلمي على درجة من الدقة مكنت المشتغلين بالعلوم من الاتفاق على ما هو صحيح مقبول وما هو خطأ مرفوض، نرى مثل هذا الاتفاق في المجال الوجداني متعذرا في كثير جدا من الحالات، فهذا يحب ما يكرهه ذاك، وما تستريح له النفس عند زيد يكون هو نفسه مصدر القلق عند خالد؛ إذ ما دام المعيار الضابط في هذا المجال، هو - كما ذكرنا - الجمال بمعان تدور حول طمأنينة النفس، فهو معيار مبهم الحدود؛ ومن هنا كان الرأي عند هذا الكاتب، هو أن نجعل مثلنا الأعلى في تربية أبنائنا وبناتنا، أن يقوى الجانب العقلي العلمي المعرفي منهم، وأن يخفت صوت الوجدان الذي هو قلب الحلقة الثانية في تحليلنا الذي قدمناه للحياة الإنسانية.
وبقيت الحلقة الثالثة التي هي مرحلة «التنفيذ» لما قد أدركناه أولا في الحلقة الأولى، وما شكلناه على هوانا ثانيا في المرحلة الثانية. ومرحلة التنفيذ هذه هي مرحلة السلوك، مرحلة الفعل، مرحلة «الأخلاق»؛ فكلمة «الأخلاق» ينصب معناها مباشرة على مجال السلوك؛ ولهذا كانت القيمة الكبرى هنا، وأعني المعيار الذي يقاس إليه نصيب الفعل المعين من الأخلاقية هو «الخير» فكل الفضائل إنما عدت فضائل لكونها مؤدية آخر الأمر إلى ما فيه الخير للإنسان فردا أو جماعة، وقد لا يظهر ذلك بصورة سريعة ومباشرة، بل قد لا يجيء هذا الخير لفاعل الفضيلة في حياته الدنيا، فيكون جزاؤه الحسن في الحياة الآخرة.
وهنا في مجال الأخلاق ترد «المبادئ» التي جعلناها هدفنا من هذا الحديث؛ لأن فهمها فهما صحيحا ركن أساسي في استقامة الحياة الثقافية كلها وبصفة خاصة حين تتفاعل الثقافات بعضها مع بعض أخذا وعطاء؛ لأن أحدا لا يجادل في أن مثل هذا التفاعل أمر لا مفر منه، فالناس من ثقافات مختلفة يلتقون بعضا ببعض، ولا مناص عندئذ من أن يأخذ بعضهم عن بعض، أرادوا ذلك عن عمد وتدبير أم لم يريدوه، فإذا ما جاءت مرحلة التقويم النظري لرجال الفكر في بلد معين، إذ يحاولون النظر فيما أخذه مواطنوهم عن شعوب أخرى من صور الفكر والأدب والحياة العملية ليروا مقدار ما أصابوا فيما أخذوه عن الغرباء ومقدار ما أخطئوا فعندئذ يكون مناط الحكم بالقبول أو بالرفض هو المساس ب «مبادئهم» الأخلاقية الأصيلة التي تعد من أقوى ركائز الشخصية القومية لشعب من الشعوب، فما الذي نعنيه بكلمة «مبادئ»؟ وهل يجوز أو لا يجوز لجماعة من الناس أن تغير هذا المبدأ أو ذاك من مبادئها الأصيلة، وإذا كان ذلك جائزا فمتى يجوز؟
إن كلمة «مبدأ» تدل بذاتها على معناها دلالة واضحة مباشرة مستقيمة، لا نلجأ فيها إلى تشبيه أو مجاز؛ فالمبدأ هو النقطة أو الفكرة التي نبدأ منها السير في عملية التفكير، وذلك لأن العملية الفكرية مستحيلة بغير فكرة ما توضع افتراضا على أنها صحيحة، ومن تلك الفكرة المسلم بها يستدل العقل ما يستدله من نتائج، وتكون تلك النتائج صحيحة على أساس الفكرة التي بدأنا منها خطواتنا الاستدلالية. ولقد سبق لهذا الكاتب في مناسبات كثيرة أن حدد المعنى المقصود بكلمة «عقل»؛ لأنها كلمة بالغة الأهمية في حياة الفكر، تتردد على الألسنة دون أن يكون معناها الدقيق حاضرا عند من يستخدمها، فكثيرا ما نقع في خطأ وخلط؛ فللإنسان بحكم طبيعته أكثر من وسيلة إدراكية يدرك بها صحة الأفكار أو بطلانها، وأجدى تلك الوسائل هي وسيلة الإدراك العقلي، وهي الوسيلة الخاصة بالتفكير العلمي أيا كان الموضوع المطروح للبحث العلمي. إذن فمن المهم أن نعرف ماذا يميز هذا النمط الإدراكي المعين الذي يكون العقل وسيلته. ونعيد ما ذكرناه في مناسبات كثيرة سابقة وهو أن الفاصل الذي يميز «العقل» عن سائر وسائل الإدراك هو أنه حركة انتقالية من مقدمة إلى نتيجة تترتب عليها؛ أي إنه يدرك الحقيقة التي يدركها بطريق غير مباشر؛ إذ لا بد له أن يتخذ وسيطا يوصله إلى الحقيقة المراد الوصول إليها، والوسيط هو المقدمة التي ينتقل منها إلى نتيجتها. لكن قارن هذا الطريق العقلي بالطريق الإيماني في رؤية الحق، تجد الفرق واضحا؛ فبينما يريد العقل وسيطا يتكئ عليه لينفذ منه إلى حقيقة ما ترى الإيمان يلمع بالحقيقة لمعا مباشرا بلا وسيط من مقدمة أو مقدمات.
فقيام «مبدأ» - إذن - ضروري للعملية الفكرية أيا كانت، فإذا كان المجال مجال علم رياضي، رأيت عند بداية الطريق حقائق تؤخذ مأخذ التسليم بغير برهان لا لأنه يستحيل على عالم الرياضة أن يبدأ من سواها، بل لأنه لا بد له من شيء يبدأ منه ليستدل، وبراعة العالم النابغ في علم الرياضة، هو أنه - حين يختار ما يبدأ منه سيره الرياضي - يعرف كيف يختار البداية التي تنتج نتائج نافعة في دنيا التطبيق. وفي العلوم الطبيعية كذلك لا بد من فكرة أو أفكار توضع في البدء على سبيل الاقتراح؛ أي على سبيل افتراض أنها صحيحة، لنستدل منها ما يمكن استدلاله من قوانين علمية، ثم يكون لسلامة التطبيق على دنيا الواقع الحكم الفصل في قبول ما كنا قد وضعناه موضع الاقتراح أو الافتراض. كل ذلك معروف وواضح بالنسبة إلى بدايات السير العقلي وطريقة ذلك السير. حتى إذا ما انتقلنا إلى مجال القيم الأخلاقية، رأينا فجأة أن كلمة «مبدأ» قد تعلق بها شيء من التقديس لم يكن لها في مجالات العلوم مع أن الموقف واحد في الحالتين؛ ففي مجال الأخلاق، إذا أردنا أن نحكم على فعل ما بالقبول أو بالرفض، ترانا نرتد به إلى قاعدة عامة لنرى إذا كان أو لم يكن مستدلا منها؛ فهناك - مثلا - مبدأ عام ينهى عن السرقة، فإذا حدث أن اقترف شخص ما فعل السرقة، حكمنا على فعلته باللاأخلاقية، استنادا إلى المبدأ العام، فمن أين جاء الفرق بين مبدأ يبدأ منه عالم في الرياضة أو في علم طبيعي، ليستدل منه، ومبدأ وضعته الأخلاق ليستدل منه ما يجوز فعله وما لا يجوز؟ لماذا هو أمر مشروع للعالم في أي مجال علمي أن يتخذ لنفسه نقطة بدء أخرى إذا ثبت له أن النقطة التي كان بدأ منها أول مرة لم توصله إلى نتائج مفيدة في التطبيق ثم نحرم مثل هذا التبديل على مجال الفكر الأخلاقي؟ فقد يحدث بالفعل أن مبدأ خلقيا معينا كان نافعا في صورة من صور الحياة ولم يعد ينفع في صورة أخرى استحدثتها الحياة في ظل حضارة جديدة. ومع ذلك فهنالك عرف عام بين الناس بأن المبدأ الأخلاقي يجب أن يظل مبدأ أخلاقيا مهما كانت نتائجه من نفع أو ضرر. ونحن نسأل هنا عن الفرق الذي يبيح لعالم الرياضة أو عالم الطبيعة أن يغير مبادئه ولا يبيح ذلك لعالم الأخلاق. إن الإجابة على هذا السؤال - في رأي هذا الكاتب - ستضع أيدينا على فارق بعيد المغزى بين الثقافة العربية في جانب من أهم جوانبها وبين ثقافة الغرب في عصره العلمي الصناعي الراهن.
الفارق الجوهري بين «المبدأ» في مجال العلوم والمبدأ في مجال الأخلاق - فيما يرى هذا الكاتب - هو أن المبدأ في الحالة الأولى ليس مطلوبا لذاته بقدر ما هو مطلوب للنتائج التي تتولد عنه؛ أي إنه وسيلة توصلنا إلى غاية وليس هو نفسه الغاية التي نريد الوصل إليها. كالطبيب وهو يشخص مرض المريض، لا يستهدف التشخيص لذاته، وإلا لاكتفى به وترك مريضه كما وجده، بل هو يقوم بهذا التشخيص ليكون بين يديه بمثابة نقطة البدء التي يستنتج منها خطوات العلاج المؤدي إلى الغاية المقصودة، والتي هي شفاء المريض من علته، وأما المبدأ في عالم الأخلاق فهو إلى جانب كونه نقطة بدء فهو كذلك يشير إلى الغاية المراد الوصول إليها، فإذا كان المبدأ - مثلا - التمسك بالحق والصبر على ما يحيط بذلك التمسك من مشاق، فهو أيضا المنتهى؛ لأن غاية الغايات هنا هي أن ينشأ مجتمع قائم على حق لا يشوبه باطل.
تلك واحدة مما يفرق بين «المبدأ» في مجال العلوم، والمبدأ في مجال الأخلاق. وأما الثانية فهي أن معظم المبادئ الخلقية جاءت إلى الناس وحيا من رسالات السماء، وليست من صنع البشر، وأكثر ما يسع رجال الفكر أن يصنعوه إزاء تلك المبادئ هو أن يحللوها استخراجا لمضامينها، وإذا كانت هنالك طائفة أخرى من مبادئ الأخلاق قد انبثقت للإنسان من واقع حياته العملية، كأن نقول - مثلا - إننا نأخذ بمبدأ مجانية التعليم لجميع المواطنين، وإعمالا لفكرة المساواة، إذن يكون أمامنا مجموعتان من المبادئ الخلقية؛ مجموعة نزلت وحيا، لا يتم الإيمان بالعقيدة الدينية إلا إذا شمل الإيمان بها، ومجموعة أخرى نشأت من واقع الحياة الإنسانية فيصبح من حق الإنسان أن يغيرها إذا تغيرت صورة حياته العملية.
ذلك هو الموقف بالنسبة إلى مبادئ الأخلاق - في رأي هذا الكاتب - وهو موقف يوضح لماذا يمتنع على الإنسان أن يغير مبدأ أخلاقيا إذا ما كان بين المجموعة الموحى بها في رسالة الدين، حتى لو ظن أنه مبدأ لا يوصل الإنسان إلى حياة مزدهرة؛ لأن التبعة الأخلاقية في هذه الحالة تمتد حتى تجاوز الحياة الدنيا إلى عالم الخلد. لكن مثل هذا الموقف لا يلتئم مع الحياة العلمية الصناعية الراهنة في جميع حالاتها؛ ومن هنا نشأت عند رجال الفكر في الغرب فكرة أخرى، مؤداها أن نعامل مبادئ الأخلاق بمثل ما نعامل الفروض في مجالات البحث العلمي؛ أي أن يظل المبدأ قائما ومعمولا به طالما هو الوسيلة الناجحة في تحقيق الأهداف المنشودة، أما إذا تبين عن مبدأ منها أنه عائق في طريق النجاح استبدلنا به سواه مما عساه يوصلنا إلى غاياتنا كما نفعل في مجال البحث العلمي سواء بسواء.
Shafi da ba'a sani ba