Larabawa da Samfurin Amirka
العرب والنموذج الأمريكي
Nau'ikan
ذلك أولا لأن البلد الفقير أقل قدرة من البلد الغني، بطبيعة الحال، على استيعاب أدوات الترف الاستهلاكي. والنتيجة الطبيعية لذلك هي تشجيع فئة محدودة جدا على الاستثمار السريع الربح في تجارة السلع الاستهلاكية واستيرادها، وفئة أخرى أكبر قليلا من السابقة، ولكنها بدورها محدودة، على اقتناء هذه السلع. أما القاعدة الشعبية الواسعة فسوف تنظر بحسرة إلى القلة المحظوظة، وسوف تتضاعف معاناتها، لأنها تجد أمامها نماذج صارخة للاستهلاك السفيه من جهة، ولأن أعباء المعيشة ستزداد ثقلا عليها، من جهة أخرى، نتيجة للتصعيد المستمر في الأسعار الذي تحدثه تصرفات تلك القلة المحظوظة.
ومن المستحيل معالجة موقف كهذا عن طريق التبشير بفلسفة «مجتمع الأسرة الواحدة» بين أفراد المجتمع الفقير؛ ذلك لأن فلسفة «الأسرة الواحدة» ينبغي أن تكون التزاما من كلا الجانبين؛ فكما تطالب الفقير بألا يحقد على الغنى أو يتمرد ضده، ينبغي أن نطالب الغني بألا يثير حقد الفقير وتمرده. ولكن الذي يحدث هو أن فلسفة «الأسرة الواحدة»، في هذه المجتمعات الفقيرة، لا تتذكر سوى التزامات الفقير وحده، أي التزامات طرف واحد من أطراف «الأسرة الواحدة»، بينما تتغاضى تماما عن التزامات عضو الأسرة الغني تجاه «أقربائه» الجياع!
إن النموذج الأمريكي يدعو إلى ترك نشاط الأفراد، في الميدان الاقتصادي، يسير في طريقه حرا، دون أن تقف في وجهه أية قيود، ودون أن تكون هناك حدود لتوسعه ونموه. ومن الجائز أنه كان لهذه الدعوة ما يبررها في ضوء ظروف أمريكا الفريدة، التي عرضناها في الفصول السابقة؛ فقد كانت قلة البشر، وضخامة الموارد، وإمكانات الاستثمار الهائلة، والطبيعة المغامرة للوافدين، كانت هذه كلها عوامل تشجع على إطلاق العنان للنشاط الفردي حتى يصل إلى أقصى مداه.
وقد أصبح هذا الاتجاه جزءا لا يتجزأ من البناء الفكري للمجتمع الأمريكي؛ فمنذ أكثر من مائتي عام، نجد الإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان يتضمن بصورة واضحة انتقادا لفكرة تدخل الدولة إلا في أدنى الحدود. وهكذا فإن أية دعوة إلى التأميم، أو التخطيط المركزي الموجه للاقتصاد أو التعليم أو الثقافة أو الخدمات الصحية، تلقى مقاومة هائلة. وما زالت عبارة جيفرسون القائلة: «إن أفضل الحكومات هي أقلها حكما» - ما زالت تعد شعارا سياسيا رئيسيا لقطاعات كبيرة في المجتمع الأمريكي.
حسنا، هذه على أية حال فلسفة أمريكا الخاصة، وهي فلسفة نجحت (برغم تحفظاتنا الكثيرة عليها) في ضوء الظروف الخاصة والفريدة لهذا المجتمع. ولكن مشكلة أمريكا، بعد أن أصبحت القوة العظمى في العالم المعاصر، هي أنها لا تكتفي بالدعوة إلى المبادئ داخل حدودها، وإنما تبذل كل ما في وسعها لكي تطبقها على أكبر عدد من دول العالم، بغض النظر عن ظروفها وأوضاعها الخاصة.
إن بلاد العالم، حتى الكثير من الدول الغنية ، تتجه على نحو متزايد إلى تأميم مرافق وخدمات أساسية في المجتمع، كالتعليم والصحة والمواصلات والإذاعة ... إلخ.
ذلك لأن التطور التاريخي يثبت صعوبة تطبيق مبدأ «الحد الأدنى من تدخل الحكومة» في معظم مجتمعات العالم. وحين نتأمل البلدان الفقيرة بالذات نجد هذا المبدأ مستحيل التطبيق؛ فعندما تكون الموارد محدودة، والسكان متزايدين، يكون معنى عدم تدخل الدولة هو ترك الفرصة أمام السمك الكبير لكي يبتلع السمك الصغير. وكما أن الأسرة ذات الدخل المحدود تحتاج، لكي تستمر في الحياة، إلى تدبير دقيق لميزانيتها ولأوجه الإنفاق فيها، ولا تملك ترف التساهل أمام رغبات الأفراد المتباينة، فكذلك تحتاج البلاد الفقيرة إلى توجيه وتخطيط لمواردها المحدودة، كيما تنتفع بها على أفضل نحو ممكن وإلا كانت الكارثة، التي تتمثل في انتعاش أوضاع القلة الضئيلة، وشقاء الملايين من أبناء الشعب.
وإذن، فالنموذج الأمريكي أبعد ما يكون عن الانطباق على مجتمع فقير محدود الموارد.
وهذا أمر لا نحتاج فيه إلى تفكير عميق؛ لأن النتائج العملية ذاتها تثبته على نحو قاطع؛ ففي كل حالة يطبق فيها هذا النموذج بلا تمييز في بلد من بلاد العالم الثالث الفقيرة، تكون النتيجة إخفاقا ذريعا. خذ أوثق الدول صلة بأمريكا، وأكثرها اقتداء بها، كدول أمريكا اللاتينية، أو تركيا، أو فيتنام الجنوبية فيما مضى، أو تايلاند، أو إيران في عهد الشاه، هل نجح النموذج الأمريكي، في حالة واحدة من هذه الحالات، في بناء مجتمع تسوده العدالة وينال فيه كل إنسان - وخاصة من الطبقات الفقيرة - نصيبه المعقول من ثروة المجتمع؟ ألا تشترك هذه المجتمعات كلها في وجود تفاوت صارخ بين طبقاتها، وعدم التوصل إلى حلول لمشكلاتها الأساسية، والعجز عن النمو والاستثمار الرشيد لمواردها، وسيطرة أساليب القمع من أجل تغطية المظالم الفادحة؟
هذه أمثلة نلمسها بأنفسنا، وهي تقدم إلينا نحن العرب - وخاصة الفقراء منا - أبلغ دليل على أن النموذج الأمريكي الذي يفتتن به بعضنا، عاجز تماما عن حل مشاكلنا، وأن نجاحه في بلاده ليس على الإطلاق دليلا على أنه يمكن أن ينجح في ظروف مختلفة كل الاختلاف.
Shafi da ba'a sani ba