وكان الوعي الأوروبي في بداية العصور الحديثة قد نفر من الكتاب ورموزه؛ منطق أرسطو، فلك بطليموس، الكتاب المقدس، أقوال آباء الكنيسة؛ لأنه يمثل سلطة القدماء على إبداع المحدثين. توجه العقل مباشرة نحو الطبيعة لتأسيس العلم الطبيعي، ونحو المجتمع لتأسيس العلم الإنساني، دون وساطة النص. ونشأ علم نقد النصوص بوجه عام، خاصة النقد التاريخي للتحرر من سلطته.
وفي نهاية العصور الحديثة الآن يعود النص ليصبح مركزا للوعي الأوروبي، النص الديني الآسيوي أو الأفريقي، أو النص الشعري أو الروائي، أو النص الإسلامي، القرآن والحديث. فازدهرت علوم التأويل، وقراءة النصوص، وعلم النصوص
Textology . وأصبحت الرواية أكثر الكتب مبيعا بعد الإنجيل، كما أصبح القرآن بعد حوادث سبتمبر 2001م أكثر الكتب مبيعا على الإطلاق، وذاع انتشار الكتب عن الإسلام، عقيدة وشريعة، دينا وثقافة، علما وحضارة، فنا ورؤية، مثل «إحياء علوم الدين» في أندونيسية بعد البخاري.
وجد الوعي الأوروبي في الكتاب المدون نصرا جديدا أو تكئة قوية لاستنهاض ذاته، والعثور على بؤرة جديدة له بعد أن قضت ما بعد الحداثة والتفكيكية على البؤرة القديمة في بدايات عصر النهضة؛ العقل والطبيعة.
ثم تلقفه الإعلام الذي يصنع الحقائق بطريقة روايتها وتوجيه الخبر والتعامل معه. والإعلام هو صانع الرأي العام، والمؤثر في انتخابات الجماهير، والموجه لسلوكهم في الحياة الخاصة والعامة؛ فالحقيقة هي كيفية روايتها، وكيفية الرواية قائمة على الأهداف غير المعلنة، والتي قد تغطي على الحقيقة ذاتها لدرجة تزييف الحقائق، وتغييب الوعي؛ تهميش المركز ومركزة الهامش كما يحدث في الإعلانات التجارية عندهم، والفيديو كليب عندنا.
وقد كشف عن ذلك من قبل هربرت مركوزه في «الإنسان ذو البعد الواحد» في المجتمعات الصناعية المتقدمة. وملأت أخبار الرواية وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وتصدرت عناوين الصحف الرئيسية، وغطت على مآسي العالم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وجرائم الغرب، مع إبراز جرائم العرب في دارفور والصومال؛ فما زال المركز الأوروبي هو الموجه للإعلام العالمي بالعولمة وأشكال الهيمنة الجديدة، أو بالغزو العسكري المباشر؛ الشكل القديم.
والموضوع هو السحر. وهاري بوتر ساحر قادر على فعل الأعاجيب؛ فقد تشبع الوعي الأوروبي بالعلم والعقل والواقع والمحسوس، وبه الآن شغف شديد للخيال والمعجزة والأسطورة والغيب والخرافة؛ فقد قضى الغرب بنفسه على مثل التنوير، وقطع أنفه بيديه. هدم العقل والعلم والإنسان والمساواة والحرية والتقدم لصالح اللاعقل والخبل والخرافة والآلة والنخبة وسيطرة الأنظمة وشبكات المعلومات. ويبحث عن بطل جديد يحل محل طرازان القديم، ورامبو الأمريكي الأول والثاني والثالث. تعلم البطل السحر في المدارس وليس في العلم، وأظهر براعته في السحر وليس في العلم، ومهد الخيال العلمي السحري للخيال السياسي؛ للاستيلاء على العالم والهيمنة عليه كما تفعل أنظمة المعلومات والقوى الكبرى الآن. فالوعي الأوروبي ما زال قادرا على عمل المعجزات للسيطرة على العالم بعد أن رفض من قبل معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وأعاجيب القديسين، وتنازل عن دفاعه المستميت القديم عن حتمية قوانين الطبيعة. وانتقل من العلم إلى السحر، ومن العقل إلى الأسطورة، ومن النهاية إلى البداية من جديد.
هل هذه نهاية حضارة وبداية أخرى؟ هل تمت دورة العود الأبدي في مسار الحضارات؟ ما يسعى إليه الغرب من سحر وخرافة وأسطورة وإعلام وتغييب للوعي، هو ما نسعى نحن الآن في التخلص منه لصالح العلم والعقل والواقع والتقدم والتاريخ. وما ينقده الغرب من مثل التنوير في القرن الثامن عشر هو ما نستدعيه نحن منذ الطهطاوي، مركبا إياها على التراث الاعتزالي ووضعية الشريعة الإسلامية كما حددها الشاطبي.
وستسرع دور النشر العربية في ترجمة سباعية هاري بوتر؛ ليس بدافع مضمونها، بل من أجل التوزيع والكسب السريع. وتبقى عشرات الكتب العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لا تجد لها ناشرا إلا إذا دفع المؤلف كليا أو جزئيا مصاريف الطباعة. الكتابة والقراءة ظاهرتان اجتماعيتان تعبران عن ظروف كل حضارة ومسارها في التاريخ. ومن يدري؟ فربما يخلق «هاري بوتر» عربي، «هاني جوهر»!
هل تحرر الوعي الأوروبي من الاستعمار؟
Shafi da ba'a sani ba