بالنسبة لجيلنا، جيل الخمسينيات والستينيات 1967م، ما زال جرحا في القلب وغصة في الحلق. هو جيل الحركة الوطنية في الأربعينيات، جيل لجنة الطلبة والعمال، الجيل الذي تكون فيه الضباط الأحرار الذين فجروا ثورة يوليو 1952م. لم يندمل الجرح بانتصار أكتوبر 1973م بسبب الهزيمة التامة للإرادة الوطنية بعد أن كانت الشعارات: خسرنا معركة ولم نخسر الحرب، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، إزالة آثار العدوان. والأخطر هو الانقلاب على المشروع القومي الاشتراكي الوحدوي في 15 مايو 1971م، والتحالف مع الاستعمار والاعتراف بالصهيونية، وهي أهداف عدوان 1967م؛ فالسياسة هي الحرب بوسائل أخرى طبقا للتعريف الشهير.
وفي استطلاع أخير لرأي الجيل الجديد من الشباب العربي أجرته إحدى قنوات الإعلام الشهيرة عن مدى وعيهم بهزيمة يونيو (حزيران) 1967م، كانت النتيجة صدمة لجيل الخمسينيات والستينيات الذي أفنى عمره في التحرر الوطني، وما زال يقاوم الاحتلال والاستعمار والهيمنة من الخارج، والقهر والفساد والتبعية في الداخل. ظهر التغييب التام للوعي التاريخي، وهو أخطر من تزييف الوعي. التغييب نفي تام في حين أن التزييف وعي بديل. والوعي التاريخي هو أساس الوعي السياسي؛ لذلك يزهو علينا الغرب بأنه هو الذي أعطى العالم فلسفة التاريخ، واكتشف الوعي التاريخي بالرغم من اعتراف فيكو مؤسس فلسفة التاريخ مع هردر أنه استمد قانونه الثلاثي لتطور التاريخ، من مرحلة الآلهة إلى مرحلة الأبطال إلى مرحلة البشر، من مصر القديمة. وضعف أمريكة في غياب وعيها التاريخي وتأسيس وعيها السياسي على المصالح والهيمنة، وربما على العنصرية، وسيادة الجنس الأبيض على الأجناس الأخرى، السوداء والسمراء والصفراء، والنازية والصهيونية والمحافظون الجدد بعض صياغاتها. والأخطر هو تغييب الوعي التاريخي العربي الذي يمتد إلى سبعة آلاف عام في مصر القديمة وحضارات ما بين النهرين وفي كنعان؛ فلسطين القديمة.
انتهى استطلاع الرأي إلى ستة مستويات للوعي التاريخي:
الأول غيابه التام:
فهذه الشريحة من الشباب لم تسمع عن 1967م، لم يأخذوها في المدرسة، ولم يشاهدوا البرامج السياسية في أجهزة الإعلام. لا يقرءون الصحف، ولا يتحدثون مع الأصدقاء أو داخل الأسرة في الشأن العام. لم تعد هناك مقررات في التربية الوطنية أو التربية القومية في المدارس. ومقرر التربية الدينية عقائد وعبادات دون معاملات وعلاقات دولية، وعي ديني فارغ من أي مضمون اجتماعي سياسي، وطني أو قومي؛ خشية من الحركة الإسلامية، وتسلل الجماعات الجهادية إلى عقول الطلاب، فينشأ وعي ديني جهادي خارج المدارس، في الشارع وتحت الأرض.
والثاني يسخر من السؤال:
عن مدى الوعي التاريخي بهزيمة 1967م؛ فالمعارك لديه، كسبا أم خسارة، في الأسهم والشركات وحسابات البنوك. لا يعرف في الحياة إلا المال، ولا يهدف إلا إلى زيادته أو تبديده. وهو جزء من العولمة الاقتصادية. ورأس المال لا وطن له. وهو ممثل لأحد الشركات المتعددة الجنسيات، وحساباته في البنوك الأجنبية. جسده عربي، وروحه أمريكية. وعقاله عربي، وذهنه عولمي. ولا مانع أن يقرأ
المال والبنون زينة الحياة الدنيا (الكهف: 46)، وينسى
والآخرة خير وأبقى (الأعلى: 17)، ويخشى من قراءة
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال (البقرة: 155)، ولا يعلم أن المال زائل، وأن مدن المال قد اندثرت
Shafi da ba'a sani ba