ولكن هذه الآلات لم تبلغ الكمال، وخاصة إذا عرفنا أننا ما زلنا عاجزين عن التمييز بين الانفعال أيا كان وبين الخوف، ثم بين الغضب وبين السرور، ولكن النبض والضغط وحركة القلب لا تميز بين هذه العواطف التمييز المضبوط، ولكن هذه السطور القليلة تدل على تأثير العقل في الجسم، وتومئ إلى احتمالات مستقبلة.
طبيعة التفكير
التفكير البشري درجات ينزل بعضها إلى مرتبة الحيوان كالحركة الانعكاسية، كما يحدث حين أحس أن يدي اقتربت من النار فأسحبها؛ فإننا وأحط أنواع الحيوان سواء في هذا؛ فالعين تطرف من القذى، واللعاب يسيل عند رؤية الطعام، والجسم يرتجف للصوت المفاجئ، وغير ذلك مما يشبه هذا، بحركات انعكاسية نحن وجميع الحيوان سواء فيها .
ويقول بافلوف: إن كل تفكيرنا بعد ذلك، مهما ارتفع، إنما هو حركات انعكاسية، قد «تكيفت» بظروف جديدة؛ أي: قد نقحت فعدل بها عن أصلها مثلا، أو زيد فيها التنبيه أو أنقص، فكأن تفكيرنا ينهض على قواعد من الحواس الخمس أو العشر التي نولد بها، وحواسنا كثيرة ليست مقصورة على النظر والسمع واللمس والشم والذوق؛ فهناك الحاسة الجنسية التي يلتفت بها الذكر إلى الأنثى والعكس، وهناك حاسة الاتزان التي تجعلنا نعتدل فلا نسقط عند المشي أو الوقوف، وهناك الحاسة التي تجعلنا على وجدان بأعضائنا الداخلية، فنحس حركتها ونعرف منها الجوع أو الشبع أو الغثيان، إلخ، والسبب في أننا نجهل هذه الحواس الأخرى أننا لم نعين لها أسماء، وعند بافلوف: أن هذه الانعكاسات هي الأساس الأول لتفكيرنا، وأنها ساذجة عند الحيوان الأدنى، ولكنها مركبة عندنا وعند الحيوان الأعلى، فنحن والكلب سواء في أن لعابنا يجري إذا رأينا الطعام، ونحن والكلب سواء إذا رأينا المائدة قد أعدت بالأطباق، حتى ولو لم يوضع عليها الطعام؛ أي إن لعابنا ولعاب الكلب يجري؛ لأننا ربطنا وضع الأطباق باقتراب الميعاد لوضع الطعام، فما كنا نسميه «تداعي الخواطر» قد صرنا نسميه «انعكاسات مكيفة»؛ أي إن رؤية الطعام تحرك اللعاب، ثم رؤية الطبق بلا طعام تحرك أيضا اللعاب، ولكن الفرق بيننا وبين الكلب أننا نستطيع أن ننتقل من انعكاس إلى آخر، ولو بلغ عددها مائة، فنستطيع التفكير، أما الكلب فقصاراه انعكاسان أو ثلاثة.
مثال ذلك: شخص يخشى الغرباء، وكلما قابل رئيسه ارتجف، فهنا انعكاس مكيف؛ أي: عدل به عن أصله «والانعكاس المكيف هو ما يسمى أيضا مركبا»؛ لأن هذا الخوف يرجع إلى أن أباه كان قاسيا عليه في طفولته فكان يخشاه، ولما كان الرجال كلهم يشبهون أباه؛ فإنه صار يخاف كل الرجال، وقد نجد مثل هذا الانعكاس المكيف في الكلب، ولكنا لا نجد فيه الإعجاب الفني، حين نعجب بصورة تحوي منظرا ريفيا جميلا، أو بقصيدة تشيد بالحرية، أو بتمثال من الجبس للربة فينوس؛ فإن سرورنا هنا يرجع إلى انعكاس ابتدائي ساذج انتقل إلى انعكاسات أخرى، وكما أن الأصل نسي في حالة الشاب الذي يخشى رئيسه، كذلك نحن ننسى الأصول في حب أحدنا للهندسة الكهربائية، وحب الآخر للزراعة، وحب الثالث للتجارة، وانغماس آخر في الخمر، ولكن إذا كانت الانعكاسات المكيفة تبين لنا الأسباب والارتباطات التي تجعلنا نسعى لغرض ما، يختلف أحدنا فيه من الآخر؛ فإنها لا تبين أشياء كثيرة عديدة نختلف فيها، كالقدرة على التوهم، أي: التخيل، أو درجة الوجدان؛ أي إن الانعكاسات المكيفة تفسر لنا ميولنا واتجاهاتنا، ولكنها لا تفسر لنا كل التفكير البشري، ونعني بعبارة «التفكير البشري» شيئا أكبر مما نرى في الحيوان، وإن كنا في حالات كثيرة من هذا التفكير لا نجد فرقا بيننا وبين الكلب، ولا نذكر القردة العليا التي كادت تكون بشرا.
انظر مثلا إلى التوهم؛ أي: التخيل؛ فإن الكلب يحلم وينبح في نومه؛ أي إنه يتخيل، بل هو ينبح حتى في يقظته إذا خاف وتوهم شيئا، كما نرى في كلاب الريف، ولكن خيالنا نحن يتسع لأكثر من هذا، كما ترى حين يؤلف أحدنا قصة من 400 صفحة كلها توهمات وخيالات؛ فالأساس واحد ولكن الدرجة مختلفة.
أو انظر في الانفعال والوجدان؛ فإن 99 في المائة من تفكير الكلب انفعال، وواحد فقط أو أقل وجدان، بل هناك من ينكر على الكلب ميزة الوجدان، ولكن ما هو الوجدان؟
اذكر أما تحب طفلها المريض وتتألم لألمه ولا تطيق بكاءه، ثم ينصح لها الطبيب بإعطائه جرعة مرة من دواء تعرف هي أنه يكرهه ويبكي من مذاقه، فهي هنا في تردد بين عاطفة الحب الأموي وعاطفة التبصر لمستقبله، فهي تقف هنيهة تتدبر وتفكر، وتحاول أن تخترع أسلوبا يرضي الطفل ولا يفوت عليه فائدة الدواء، هي الآن في وجدان؛ أي: تفكير لا نكاد نجد مثله عند الحيوان، إلا في الأقل النادر، وهذا الوجدان هو أصل الضمير، هو أصل قولنا: ماذا أختار؟ هو أصل التفكير البشري؛ فالحيوان ينفعل؛ أي إنه ينساق بعاطفة الخوف أو الحب أو الشره أو الهجوم، وهو حين ينفعل لا يكاد يفكر؛ لأنه منساق بعاطفته قهرا، ولكنه إذا تردد بين عاطفتين أحس وجدانا، ولكن هل الأسد أو الببر أو الثعلب يتردد؟
ربما، وعندئذ هناك لمحة من الوجدان، بل لعلها لمحة زائلة؛ لأن أحد الانفعالات (العواطف) يتغلب على الآخر، ثم يصير الانفعال حركة للفرار أو الهجوم أو الافتراس أو الأكل، بل لعله كان حركة من الأصل، ونحن البشر حينما ننفعل وتسودنا عاطفة ما سيادة تامة نحس كأننا في غيبوبة، فلا ندري ما نفعل حتى لقد ننطق بكلمات أو نؤدي حركات نتعجب عقبها من قيامنا بها؛ لأن الوجدان قد جاء في الإفاقة من الانفعال، وصرنا نقارن بين عواطف مختلفة؛ أي: صرنا نفكر.
ولنعد إلى بافلوف والانعكاسات المكيفة التي يعزو إليها التفكير، وأحرى بنا أن نقول: إن هذه الانعكاسات إنما تقرر ميولنا واتجاهاتنا، أما التفكير (= الوجدان) فيقوم على المقارنة بين هذه الانعكاسات، ونحن نفكر أكثر وأبرع من الحيوان؛ لأن هذه الانعكاسات كثيرة عندنا، فالمقارنات أيضا كثيرة، وعندئذ يحدث التعقل والتأمل والتدبر والتبصر.
Shafi da ba'a sani ba