ثم هناك الغدتان الأدريناليتان فوق الكليتين، وهما لتزويد الجسم بالانبعاث الفجائي وقت الغضب أو الخوف؛ ولذلك تصل هذه الغدة إلى أكبر حجم في الأسد وسائر عائلته من الببرة والنمور والقطط؛ لأنها كلها تحتاج إلى حشد قوتها للوثوب، وكذلك تكبر في الحيوانات التي تحتاج إلى الفرار السريع كالغزلان والفئران، فغدتنا الدرقية أكبر من غدة الأسد، ولكن الغدة الأدرينالية عنده أكبر مما عندنا، والنتيجة أن الأسد حيوان الوثوب الانفجاري والحرب الخاطفة، أما الإنسان فحيوان المثابرة والصبر على المشاق.
وانظر إلى الفأر والفيل، فكلاهما حيوان لبون، ولكن حياة الفيل هادئة مستقرة، ولذلك فإن الغدة الدرقية عنده تكاد تساوي الغدة الأدرينالية، أما الفأر فيعيش في حرب خاطفة يثب ويفر؛ ولذلك فإن الغدة الأدرينالية عنده تزيد بمقدار تسعة أضعاف الغدة الدرقية، ويتضح هذا في دقات القلب في كل منهما، فهي في الدقيقة 27 عند الفيل و300 عند الفأر، ونحن نذكر هذه الحيوانات كي نقول: إنه إذا زاد إفراز الغدة الأدرينالية في الإنسان زادت دقات قلبه فكان سريع الغضب متفززا سريع الأجفال.
ثم هناك الغدة النخامية، وهي في أسفل المخ، وتأثيرها كبير جدا في تكوين الشخصية، حتى إن بعضهم سماها «رئيسة الجوقة الغددية» لأنها تؤثر في سائر الغدد، وتعين اللحن العام للسلوك.
وهناك أنواع من النقص الذهني الذي ينشأ من نقص في الغدد، وأحيانا تمكن معالجته بأن يحقن الجسم بالمفرزات التي تحضر من أجسام - أي غدد - الحيوانات، وكلنا يعرف أنه تمر بنا فترة في حياتنا «حوالي سن 15» نحس فيها بفورة جنسية تقارب الجنون، وهي ترجع في الأغلب إلى وفرة الإفراز الخصوي، ولكن هذا الميدان لا يزال إلى الآن بكرا ومستقبله أكبر من حاضره.
ونستطيع أن نرتب الناس بحسب أمزجتهم، فنقول: المزاج الأدرينالي للشخص الانفجاري المتفزز الذي يمتاز بالنزوة والاندفاع، ونقول: المزاج الدرقي للشخص الصبور المتجلد المثابر، ونقول: المزاج النخامي - على قلة معرفتنا هنا - للشخص الذكي المتزن.
ومن هنا يرى القارئ أننا لا نتصرف في هذه الدنيا بالعقل فقط، بل بكل الجسم؛ فإن حالة الدم ودرجة الحرارة ومعدل الفيتامينات وهورمونات (= إفرازات) الغدد الصماء وسلامة الحواس والمخ، كل هذا يؤثر في تفكيرنا وسلوكنا، والسيكلوجية هي لهذا السبب «علم النفس»؛ أي إنه يدخل في اعتبارها كل هذه الأشياء وليس العقل وحده، وفي مصر العظيمة المسكينة - حيث يعيش أحد الناس بألف أو مائة جنيه في اليوم ويعيش آخر بثلاثة قروش - يتفشى بين الفقراء مرض البلاجرا الذي ينشأ من نقص غذائي فيتاميني، ويؤدي إلى بلاهة ترى في كثير من الفلاحين الفقراء.
وسنرى في فصل قادم أن شكل الجسم يؤثر في الاتجاه الذهني؛ فالشخص النحيف، طويل الوجه (= الانطوائي) يختلف من الشخص السمين المتكتل القصير الذي يستدير وجهه (= الانبساطي) من حيث المزاج والتصرف والاتجاهات الذهنية.
العقل يؤثر في الجسم
في سنوات الحرب الماضية كنا نجد في القاهرة وقت الغارة أن سيفونات المراحيض يتكرر شدها؛ لأن الخوف من قنابل الطائرات كان يؤثر في الأمعاء ويحركها على غير ميعاد، وكلنا سمعنا عن بعض الناس يفجئون بخبر مزعج فيبولون، وأكثر من ذلك، فقد يؤثر الخبر المزعج في أحد الناس فيموت بسكته القلب أو بنزف في المخ، وأحيانا تؤدي الكارثة إلى مرض البول السكري، كالأم تسمع عن حادثة وقعت لابنها، أو المالي يبلغه خبر السقوط العظيم في قراطيسه المالية بالبورصة، أو نحو ذلك، فتؤدي الصدمة إلى إصابة بالبول السكري، وأحيانا نتأثر بحادثة فنصد عن الطعام؛ فإذا زاد التأثر حدث التهاب في الأمعاء فنتبرز مخاطا ودما مما يسميه عامتنا «التعنية»، وقد تحدث قرحة بالمعدة أو يلتهب الجلد بما يسمى «أورتيكاريا».
والهم هو في التعبير السيكلوجي «خوف متكرر» يتناوبنا من وقت لوقت، وهو يحدث هذه الأعراض التي ذكرناها أو أحدها، وقد زادت وفيات السكتة في أيامنا، وليس لها من سبب في الأغلب إلا زيادة الهموم؛ لأن تكاليف الحياة المادية والمعنوية زادت إلى حد لا يطاق، فنحن نفكر في مخاوفنا ونجترها ونقلق فيؤثر كل هذا في أجسامنا، في القلب والشرايين والبنكرياس والأمعاء، وربما في أكثر من ذلك؛ أي إن العقل يؤثر في الجسم، وقد كان آباؤنا يعيشون قانعين، وكان طموحهم «قرويا» لا يكلفهم كثيرا من الجهد فكانت همومهم معتدلة، أما نحن فنسرف في الطموح ونتعلق بالنجوم، فهمومنا كثيرة التكاليف والأعباء التي نعجز عن تحملها.
Shafi da ba'a sani ba