وفي كتاب «كنديد» يجوب فولتير معظم أقطار العالم، فيتجلى اكتئابه النفسي حيال ما ينطوي عليه تاريخ العالم من حروب وفظائع ومصائب ونوازل وأعمال تشابه ما يصدر عن المجانين.
وكاد فولتير يقضي بكتاب «كنديد» على مبدأ التفاؤل في العالم، فبه يهدم التفاؤل المطلق، وهو من أعظم كتب العالم حملة على هذا التفاؤل - إن لم يكن أعظمها.
وكتاب «كنديد» مملوء سخرية وإبداعا - ولا عجب - فالقلم بيد فولتير يجري ويضحك كما قال أناتول فرانس.
وفي كتاب «كنديد» ترى فولتير أكثر الكتاب دعابة مع بعد غور في المقصد. ولا غرو، ففولتير في كتابه «كنديد» أعظم من يقوم بهذا الغرض.
وكتاب «كنديد» مؤلف من جزأين: فأما الجزء الأول فيوجد إجماع على أنه وضع بقلم فولتير، وأما الجزء الثاني فقد ذهب كثير من النقاد إلى أنه من وضع كاتب آخر؛ ولذا يرى اقتصار بعض الطبعات وبعض الترجمات على الجزء الأول منه، كما يرى اشتمال طبعات أخرى وبعض ترجمات على الجزءين معا، وذلك مع إشارة قسم منها إلى هذا الأمر.
ومهما يكن من أمر، فإن الجزء الثاني وضع على نحو الجزء الأول وروحه، ولا يكاد الناقد النفاذ يلمس فرقا بينهما، وكيف يدرك هذا والجزء الثاني ينم على براعة ولباقة كالأول؟! وقد حفزنا هذا إلى ترجمة الجزء الثاني أيضا إتماما للفائدة، وإمتاعا للقارئ العربي.
وإذا سألت عن مذهب فولتير السياسي واعتقاده الديني، أجبت بأن فولتير يقتصر - مثل مونتسكيو - على المطالبة بالإصلاح السياسي والديني، وثلم شوكة الاستبداد، وهما في هذا على خلاف جان جاك روسو، الذي كان ينادي بضرورة تجديد الدولة والمجتمع تجديدا كليا.
وكان كل من فولتير ومونتسكيو راضيا بالمجتمع الذي يعيش فيه، فلا يرغب في قلبه، وإنما يطلب الإصلاح، وكلاهما فتن بالدستور الإنكليزي، ولا سيما تسامح الإنكليز الديني. وكان الدين أظهر ما عني به فولتير - وإن بحث في السياسة. وكانت السياسة أظهر ما عني به مونتسكيو - وإن بحث في الدين.
وكلاهما ناهض عدم التسامح في جميع وجوهه، كما ناهضا الاضطهاد والتفتيش والحروب الدينية، وطالب فولتير بإلغاء امتيازات الإكليروس، وطالب مونتسكيو بأن تكف الكنيسة عن ظلم مخالفيها ومنكريها، وبأن يكون الإكليروس أقل ثراء وسلطانا.
حقا كانت فرنسة في عهد لويس الرابع عشر وعهد لويس الخامس عشر خاضعة لكنيسة متعصبة غير متسامحة ولملكية مستبدة، فلم تذق طعم الحرية الدينية ولا طعم الحرية السياسية، فلم يطق الناس هذا الوضع، فظهرت في أوائل القرن الثامن عشر روح تذمر شديد بين المثقفين ضد الكنيسة والملكية، ولكن مع تعذر الجهر بالحملة على الدين والنظام القائم.
Shafi da ba'a sani ba