ميللر: بالطبع الآن المسائل تبدو أكثر تعقيدا مما كانت تبدو في تلك الأيام. المجتمع الآن معقد جدا، والمشكلة الأساسية هي أن تجد بعض الأمل وبعض الرمز للأمل. في شبابي كان هناك خطر النازية والفاشية، وكان هذا يجسد الشر في رمز واضح وصريح، الآن من الصعب أن ترمز للشر برمز واحد. وهكذا من الصعب أن نقول في جملة واحدة ما هي المشكلة الآن؛ فالمشاكل كثيرة جدا. إن بلادنا الآن «أمريكا» تجتاز مرحلة تطور هائل وتتغير بسرعة شديدة.
ملحوظة: أحسست أن الفلاح العجوز ذا الصحة الجيدة تماما يحاول أن يزوغ من الإجابة الصريحة الواضحة، وحاولت بحسن نية شديد أن أتتبعه. - تتطور إلى ماذا يا مستر ميللر؟
ميللر: لا أحد يستطيع الجزم إلى أين، وأي إنسان يزعم لنفسه أنه يستطيع فهو ساذج جدا. أنت لا تستطيع الجزم إلى أين. أحيانا تستطيع أن تقول: إننا نسير إلى اليمين بشدة، وأحيانا أخرى أشعر أننا أصبحنا أكثر حرية من أي فترة أخرى من فترات تاريخنا. حقيقة عندنا الآن كم كبير من الحرية. - أتعتقد حقا أن هناك الآن حرية فعلا في أمريكا؟
ميللر: بالتأكيد نعم. هناك حرية أكثر من الماضي. وفي نفس الوقت «الكاتب المسرحي يلعب الآن.» فإن المؤسسات الهائلة والمال الكثير نفوذهما أيضا يتعاظم. - حسن جدا. كما في الدراما، لقد حددنا الآن طرفي الصراع، الحرية أكثر ونفوذ المؤسسات أعظم، فما هي محصلة القوى في رأيك؟ وإلى أين تتجه الريح ويتجه المستقبل؟ هل إلى مزيد من نفوذ المؤسسات أم مزيد من الحرية للمواطن؟
ميللر: هذه هي المشكلة، بالضبط كما حددتها هذه هي المشكلة. إن من الصعب تماما على المواطن الآن أن يكون مستقلا تماما عن هذه المؤسسات مثلما كان باستطاعته أن يفعل في السنين الماضية. المحلات الصغيرة تغلق، أصحابها يتحولون إلى عمال وموظفين في المؤسسات. الاستقلال حلم صعب المنال. ولكن في نفس الوقت فإن موقف الناس في أوجه كثيرة قد تحرر عن ذي قبل؛ إنهم لا يطيعون الآن بسرعة ولا يخضعون بسهولة ويميلون إلى التشكك في مصدر الأقوال والأفعال، باختصار لا يصدقون الآن كل شيء يقال لهم بسهولة.
بصعوبة ونعومة كان ميللر يقود الحديث إلى خارج منطقة المواجهة والاحتكاك. ولكني كنت لا أزال مصرا أن أعرف رأي هذا الكاتب العملاق «قيمة وجسدا» في بلده وموقفه منه اليوم. والموقف بالنسبة لي صعب، فاللعبة بالحوار أصبحت أسخن، ونحن أصبحنا أكثر اندماجا، ثم لا ننسى أن ميللر ذلك الذي كان من أوائل من قرأت له من المسرحيين، ومن بعد ستة آلاف كيلو، كنت أتحمس له وأتخيله، ناهيك عن موضوع مارلين مونرو.
عن كامل الشناوي
حين صدر ديوان «لا تكذبي» اتصل بي صديق العمر المرحوم كامل الشناوي وأخبرني أن لي نسخة عنده عليها إهداؤه، ورجاني أن أمر عليه؛ لنشرب القهوة ونتحدث وآخذ الديوان. ونحن أحيانا نتصرف بغرابة لا نعرف مصدرها؛ فديوان «لا تكذبي» لم يكن مجرد ديوان، ولكنه كان ثمرة لجهود متصلة طويلة بذلها كل أصدقاء كامل الشناوي ليحملوه على جمع شعره لتضمه دفتا كتاب. وكنت شخصيا شديد الحماس للفكرة، ما من مرة قابلت كامل الشناوي فيها إلا وذكرته بها، وما من مرة أوصلته إلى بيته قرب الفجر أو قرب الصباح إلا وطلبت منه - كرجاء أخير - أن يفكر جديا في إصدار الديوان، ولم يكن يوافقني في بعض الأحيان إلا تخلصا من إلحاحي؛ فقد كان يعارض دائما فكرة أن يصدر كتابا أو يكون له كتاب، رغم أنه في حياته الأدبية والصحفية كتب أشعارا ومقالات وأحاديث وخواطر لو جمعت لكسب الأدب العربي أربعة أو خمسة كتب هي من خير ما كتب في النثر أو الشعر العربي.
كان يعارض لأنه كان - من فرط تواضعه أو طموحه - يعتقد أن أعماله غير جديرة بوضعها في كتاب؛ فالكتاب في رأيه لم يكن مجرد أن تصدر كتابا مثلما يفعل مئات محترفي وهواة إصدار الكتب. الكتاب في رأيه كان شيئا مقدسا يذكرك بالكتب التي غيرت من مجرى التاريخ وصنعت تقدم الإنسان. الكتاب عنده كان مرادفا للرسالة الكبرى، للاختراع الخطير، أو لاكتشاف قانون من قوانين العلم أو الحضارة.
باختصار كان يرى أن الكتاب هو الشيء الذي لا يمكن أن تظل نفس الشخص بعد قراءته، إنما لا بد باستيعابه أن تتغير وتؤمن بشيء لم تكن مؤمنا به أو تكفر بشيء كنت شديد التعلق به والإيمان. وكان يسأل: أتعتقد أن مجموعة أشعاري لو صدرت يمكن أن تكون ذلك الكتاب؟ وكنت أعارضه بقولي إن طموحه هذا شيء جميل ولكنه ضد المنطق وضد الحياة، فالحياة أبدا لا تتطور بالطفرة، إنما التطور يأتي بالتدريج الشديد، وحتى أصحاب الاكتشافات العلمية لا تأتي اكتشافاتهم أو قوانينهم طفرة. إن العالم مجرد إنسان فذ في طابور طويل ساهم كل منتظم فيه بإضافة صغيرة تمهد الطريق لمن يتلوه كي يضيف هو الآخر إضافة أخرى صغيرة، وهكذا، وبتراكم هذه الإضافات ينشأ القانون وتتغير النظرة ويتطور الإنسان. وليس المطلوب من أي كتاب إلا أن يغير ليس إيمانك أو رأيك كله، وإنما جزءا صغيرا من الرأي أو الإيمان، تكفي أحيانا نقطة واحدة تتغير في وجهة نظرك ليكون الكتاب قد أدى رسالته على الوجه الأكمل. ونشر أشعاره أو إنتاجه النثري في كتاب أو في كتب لا يزعم أحد أنه سيغير بين يوم وليلة من مفهوم الناس كلية، وإنما يكفي أن يتيح لهم فرصة تذوق شعره أو استيعاب آرائه ومعايشة فلسفته، فكامل الشناوي كان إنسانا متكاملا، وظاهرة وإن كانت متعددة الجوانب إلا أن كل جانب يضيف إلى الآخر بحيث نجد أنفسنا في النهاية ليس أمام شخص وإنما في الحقيقة أمام موقف شناوي أصيل من الحياة. لا لم تكن له فلسفة عمر الخيام وإن حفلت بها روحه، ولم يكن له تشاؤم المعري وإن استعارها بعض الأحيان، ولا وجوديا يعيش اللحظة بلحظتها ولا مركسيا يؤمن بحتمية التطور إلى الأعلى والأحسن، كان مزيجا غريبا من هذا كله، بحيث حين تقرؤه تحس أنه أكثر المتشائمين تفاؤلا وأشد الخياميين والمعريين زهدا في الحياة، الواقف من حتمية التطور إلى الأرقى والأحسن موقف الشاك المتشائم، ذلك المؤمن بالحياة إلى درجة اليأس الكامل منها.
Shafi da ba'a sani ba