الذكاء الجميل
الذي يزور لندن - خاصة في السنوات الأخيرة - لا بد سيلحظ ولأول وهلة أن الأجيال الجديدة، وبالذات من الفتيات، جميلات بطريقة غير معقولة: إجماع على الجمال. وحاولت مرات كثيرة وعن عمد أن أعثر على فتاة إنجليزية قبيحة، أو حتى «مش ولا بد» دون جدوى. ولقد أدهشتني الظاهرة فعلا؛ فصحيح أن الصحة والحضارة ترفعان مستوى جمال الشعب بشكل عام، ولكن الشعب البريطاني ليس أكثر شعوب أوروبا ارتفاعا في مستوى المعيشة. ربما الأصح هو العكس؛ بريطانيا الآن تكاد تكون أفقر بلاد أوروبا.
الحقيقة ظل السؤال يحيرني طويلا: لماذا هذا الارتفاع الغريب في مستوى الجمال في بريطانيا؟ وليس الجمال هنا جمال الوجه فقط أو الملامح، إنما الجمال بشكله العام، جمال الجسد والقوام والشعر. صحيح أن الأناقة درجتها أقل، ذوق الفرنسية أو الإيطالية في اختيار ملابسها أرفع بكثير، إنما العجيب أن تكون فتيات لندن هؤلاء أجمل من فتيات روما أو باريس بشكل عام! ظل السؤال يحيرني حتى تولت سيدة مصرية ذكية وواسعة الإدراك تفسير الأمر لي. قالت: لا تعتقد أن هناك فارقا كبيرا في الجمال الطبيعي الذي يهبه الله للناس وللمجتمعات في كل مكان، الفارق الكبير هو من صنع البنت الإنجليزية نفسها، إنه جمال مصنوع ما تراه، ولا أقصد بكلمة مصنوع أنه مصطنع؛ فنادرا جدا ما كنت أجد فتاة مثلا تستعمل المساحيق أو وسائل التجميل الفاقعة لإضفاء ألوان صناعية على خدودها أو جفونها، إنما هو جمال مصنوع بمعنى أن كل بنت من الأجيال الجديدة بالذات قد بلغت من الذكاء حدا جعلها لا تحاول تغيير أمر جمالها أو قبحها الواقع، إنما هي تنظر إلى نفسها وملامحها وجسمها نظرة واقعية، موضوعية، بحتة.
ولأن الله لم يخلق في القبيح مثلا أو القبيحة كل شيء قبيحا، إنما تجد لا بد لدى كل إنسان أو إنسانة ميزة جمالية من نوع ما. قد تكون ملامح الوجه غير جميلة ولكن الأنف مثلا أو الشفتين أو العينين فيهما ذلك الجمال الخاص. وهنا يبدأ ذكاء فتيات الجيل الجديد يعمل؛ فهي لا تحاول أبدا أن تطمس ملامحها الخاصة لتكتسب ملامح جمال عامة كما كان يحدث إلى عهد قريب. كل امرأة تريد أن تكون لملامحها نفس الملامح التقليدية في الجمال، العيون الواسعة والرموش الطويلة والخدان البارزان الأحمران والشفاه المكتنزة. كل تلك المقاييس العامة في الجمال لم تعد هي هدف الحياة الحديثة. أدركت الفتاة ووعت حقيقة أن الجمال شيء خاص جدا وليس ظاهرة عامة متعارفا على مقاييسها ونسبها، وأن كل إنسان، كل فتاة باستطاعتها أن تكون جميلة، ليس بتقليد جمال الأخريات، وإنما بتفردها عن الأخريات، بإبراز سماتها الجمالية الخاصة، حتى الأنف الكبير ذلك الذي كاد يكون في الماضي كارثة جمالية لصاحبته، من الممكن أن يصبح ميزة لصاحبته، ميزة تنفرد بها عن سواها. وإنما لا بد لكي يحدث هذا أن تسخر الفتاة ملامحها لإبراز هذا الجمال الخاص. فمثلا هذه «الفورمة» من التسريحات وإن كانت «موضة» إلا أنها لا تناسب وجهها المكتنز، وهذا الوجه لو صفف له الشعر هكذا وبطريقة تلائم الملامح أو تجعل الوجه يبدو أقل اكتنازا، إذن لتغيرت ملامح الوجه كله واتخذت طابعا أو سمة أجمل.
لم يعد «الميك أب» إذن صنعة تتولاها الماشطة القديمة أو الحديثة على السواء، أصبح عملية ذكاء لاستغلال عناصر الجمال الطبيعي الموجود في كل كائن بشري، أصبح عملية تخصيص وتفرد وليس عملية تعميم مقاييس جمالية معينة اصطلح الذوق العام عليها.
إن الفن نفسه بشكل عام ليس إلا محاولة عظيمة للإنسان لخلق أو فرض أو تصوير واقع أجمل، أو جمال من صنع الإنسان يحفز ويحرك غريزة الإنسان المركبة فيه، والتي تستجيب دائما لكل ما هو جميل، سواء أكان من صنع الطبيعة أم صنع الإنسان.
الجمال اللندني إذن، ذلك الذي يبهرك للوهلة الأولى، ليس مكونا من قطيع هائل من النساء الجميلات بالوراثة، إنما أجمل ما في الإنسان عقله وذكاؤه.
الذكاء المصري
ليسمح لي الدكتور عبد العزيز حجازي بعد خطابه الشامل في مجلس الأمة؛ أسأله عن نقطة حيرتني. فهو في فقرة يتحدث عن ضرورة تصدير ما يسمى بالرأسمال البشري، أي ضرورة تصدير القوى العاملة بعد إعدادها فنيا وتعليميا إعدادا كافيا. وفي نفس الفقرة - وهذا هو الغريب - يتحدث عن ضرورة استخدام الخبراء المصريين في كافة المجالات وإغرائهم بالمرتبات والإمكانيات وإتاحة الفرص لعملهم هنا. أليس في هاتين النقطتين تعارض حاد؟ فإذا كان عندنا فائض بشري قابل للتصدير (ما أروع الإنسان المصري وهو يصبح فائضا بشريا!) فما الداعي لاستيراد هذا الفائض بعد تصديره وبسعر أعلى بكثير من سعر «السوق المحلية»؟ أم أن الخبرات التي يتحدث عنها الدكتور حجازي والتي يقترح التوسع في تصديرها هي الخبرات المتوافرة في سوق العمل المحلية، والتي لها نظائر مماثلة هنا؟ والخبرات المصرية التي يقترح استيرادها هي خبرات ناقصة ولا غنى عنها. فإذا كانت ناقصة ولا غنى عنها فعلا، فكيف تمت عملية التصدير إذن وبموافقة الحكومة؟
في الحقيقة منذ أن سمعت من الدكتور عبد العزيز حجازي حديثه لأول مرة عن ضرورة تصدير فائض الخبرة البشرية إلى الخارج - وبالذات إلى البلاد العربية - وأنا أفكر في الموضوع تفكيرا خطيرا؛ فصحيح أننا نجني - كما ذكر السيد رئيس الوزراء - ما يقرب من المائة مليون جنيه عملة صعبة تدخل مصر عن طريق هؤلاء العاملين بالخارج، ولكن السؤال يظل: ترى كم يخسر الإنتاج المصري في المدى الطويل نتيجة هذا النزيف «الذكائي» المستمر؟ فالواضح أن معظم ما نصدره للخارج من خبرات هم أكفأ وأنشط العناصر؛ تلك التي تضيق بالمعوقات وما يسمى بالاختناقات (ولا ريب أن هذا اسم طريف) في مصر، فيهجون - ولا أقول يهاجرون - إلى الخارج، أي أنهم مرغمون على الهجرة وليس عن طواعية يفعلون؛ والنتيجة بالطبع هي أن يكثر الغباء في السوق المحلية ويقل الذكاء. وحيث إن الإنتاج أولا وأخيرا هو بشر، فلا بد أن إنتاج الأغبياء أقل كما وأقل قيمة؛ ولهذا فبينما قد نكسب كل عام 100 مليون جنيه لا بد أننا نخسر في المدى الطويل آلافا من الملايين من الجنيهات التي كان يمكن أن نحصل عليها هنا بتشغيل هؤلاء الأذكياء المصريين.
Shafi da ba'a sani ba