وإذا لم يحدث هذا الاندماج فإنني - أنا الذي ضد تدخل الدولة في الفن - أطلب من الدولة أن تصدر قانونا عاجلا لتنظيم صناعة السينما بحيث لا يسمح لأي من هب ودب أن يقدم أي قصة وأي كلام وهات يا أفلام. إذا كنا لا نسمح للطبيب أن يعالج مريضا إلا بعد دراسة لا تقل عن العشرين عاما، فكيف نسمح لجاهل أن «يعلم» شعبا كبيرا قيمه ومبادئه و«يربي» أجياله؟ والكلمة هنا لا تنطبق على المنتجين فقط، وإنما - وهذا هو الأهم - على كتاب السيناريو والحوار والمخرجين. وأطالب في نفس الوقت أن تتكون من النوادي الثقافية واتحاد الأدباء ونقابة الصحفيين ونقابة السينمائيين جمعية «حماية المتفرج» فالمسألة أخطر بكثير من أن نتركها لعبث بعض العابثين باسم حماية صناعة السينما، فلتذهب السينما إلى الجحيم إذا كانت تريد أن تذهبنا إلى الجحيم.
ما دمنا نتكلم عن الفن
على كثرة ما نناقش الفن والفنانين والكتابة والكتاب على صفحات جرائدنا ومجلاتنا ووسائل إعلامنا المختلفة، إلى درجة غريبة في أحيان؛ إذ أليس من الغريب أن تشاهد أو تسمع برنامجا بأكمله أو ربما سهرة تناقش عملا فنيا مثل أغنية أو رقصة، وتناقش مسائل «الوحي» وتفاصيل عملية «الإبداع»؟ ذلك أن مشاكل كهذه تعتبر مشاكل خاصة جدا لا يمكن أن يناقشها المجتمع إلا إذا كان قد فرغ من مناقشة معظم مشاكله الحقيقية العامة، حينئذ باستطاعته أن يتفرغ لمناقشة مهنة كالهندسة، ويتتبع تفاصيل خلق وإقامة عمارة مثلا.
المهم
على كثرة ما نناقش مسائل الفن والكتابة، فنحن أحيانا نغفل عن أبسط مبادئ الفن والكتابة. وأولها في رأيي التفريق بين الفنان والحرفي، وبين الكتابة و«حرفة» الكتابة. فنحن مثلا حين نتداول كلمة «موهوب» أو كلمة «فنان»، نعني بها ذلك الإنسان الذي أوتي قدرة فريدة على مزاولة الرسم مثلا أو التلاعب بالكلمات كشاعر. نعتبر الموهبة إذن شدة حذق في صنعة الرسم أو صنعة الكتابة أو صنعة التمثيل. ويصبح «الفنان» حينئذ إنسانا مساويا تماما لأي حرفي آخر حاذق في صنعته.
ولنأخذ القصة مثلا.
عاملناها كحرفة، وعاملنا القصاص أو اعتبرناه إنسانا يحذق «فن» القص، وجعلنا اختلاف القصاصين بعضهم عن البعض يقاس «بمهارة» كل منهم في كتابة القصة أو حبكها.
ولا شك أن الفنون جميعا بدأت كصنعة أو كحرفة يتقنها بعض الناس، كما يتقن آخرون «قص الأثر» أو صناعة القلل. وظل الناس يعجبون بصنعة الفن لمرحلة طويلة جدا من الوقت، ويفرقون بين الرسام أو النحات والآخر بمقدار كفاءته أو حذقه في الرسم أو النحت أو الكتابة.
ولكن العصر الحديث حمل لنا ثورة في مفهومنا للفن وللفنان، فالفنان لم يعد مجرد ذلك الحاذق في نحت الحجر أو الرسم بالفرشاة، أصبح الفنان هو الشخص الموهوب، ليس الموهوب في صنعة التلوين أو الكلام وإنما الموهوب برؤيته. أي أنه موهوب لأنه «يرى» فيما نراه أشياء «لا نراها»، أشياء نعبرها أو نراها ولا نفهم مدلولها ومعناها. الفنان هو ذلك الإنسان القادر على أن يكتشف لنا أو يعيد اكتشاف العالم من وجهة نظره. بمعنى آخر الفن لم يعد حذقا وصنعة، وإنما أصبح «رؤية» مختلفة إلى الواقع. فصحيح أن لنا عينين وأننا نرى، ولكننا في حقيقة الأمر رؤيتنا محدودة جدا، محدودة بقدرتنا الخاصة على الرؤية، محدودة بمعلوماتنا عما نراه، محدودة حتى بما نريد رؤيته.
فنحن نعيش في الواقع ونرى، ولكن أبصارنا محدودة بقدرة أعيننا على إدراك ما نراه. الفنان هو الإنسان القادر على أن يرى ربما أبعد، ربما جانبا آخر لا نراه، ربما نظرة جديدة إلى النفس والآخرين. إن الإنسان في الكون الهائل يشبه الطفل يوضع في حجرة مظلمة لا يعرف ما فيها إلا بمقدار ما يلمس أو يتذوق أو يرى. ولأن الأصل هو الظلام، فالقدرة على الرؤية محدودة جدا. الفنان هو بمثابة شمعة تضيء وترينا أشياء ما كنا نراها، أو بمعنى آخر قوة بصرية وإدراكية جديدة تضاف إلى قدراتنا السابقة؛ فنحن مثلا نمر بالعربجية كل يوم، ولكننا لا ندرك أنهم بشر وأن لهم أحاسيسهم البشرية البالغة الرقة إلا حين نقرأ مثلا قصة العربجي الذي مات ابنه واضطر إلى العمل في نفس اليوم، وهو يحاول أن يحدث ركاب العربة عن ابنه وعن إحساسه بفقده ولا أحد يأبه، وهكذا في آخر النهار يجد نفسه يتحدث إلى حصانه عن ابنه الذي فقده. بقصة كهذه جعلنا تشيكوف «نرى» إنسانية ذلك الرجل، بحيث ما من مرة نرى فيها عربجيا إلا ونراه مضافا إليه رؤية تشيكوف له.
Shafi da ba'a sani ba