مصر هؤلاء الفلاحين وأبناء الفلاحين والعمال وأبناء العمال، خريجي الصنايع وأصحاب المؤهلات، شباب المدينة، وشباب القرى، مصر التي طالما نظر لها العالم على أنها مسكينة ملأى بالمساكين والفقراء. نعم، بفضل التسلط الاستعماري ظللنا لأمد طويل مساكين وفقراء، وللآن لم نزل فقراء، ولكنا لم نعد مساكين. فالبطولة الحقة أن الذين قهروا عدونا الشرس، الذين دكوا الحصون وعبروا المياه وسحقوا الدبابات والطائرات ومحوا أسطورة إسرائيل؛ البطولة أنهم ليسوا عمالقة من بلاد مجهولة ولا كائنات خرافية هبطت من السماء، البطولة أنهم أبناؤنا؛ هؤلاء أبناء أرضنا ومدننا وقرانا. أناس من دم ولحم وشحوب لم ينحدروا من صلب بروسيين، ولم يكونوا كالإنجليز قراصنة بحار، ولا كان آباؤهم مقاتلين. البطولة الهائلة الحقة أنهم هكذ، بالتلقاء البسيط، بالبطولة حين تزاول كعمل يومي لا فخر فيه ولا ادعاء، بالمعجزات حين تتحقق على أيدي البسطاء، البطولة الحقة أن هؤلاء هم الذين سيروي عنهم التاريخ إلى أبد الآبدين.
حين انتهى الشاب سائق الدبابة من الحديث عن القائد وبطولته، سألته كيف حدثت الإصابة وأزالت قدمه: أبدا. أنا مقعدي في مقدمة الدبابة، أثناء معركة الدبابات جاء صاروخ أصاب المقدمة وأخذ قدمي، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تصاب فيها الدبابة؛ أصيبت مرتين وأصلحناها، ولولا أنهم انتزعوني من مقعدي وأن الصاروخ أصاب بدال البنزين لأصلحتها بنفسي وواصلت القتال.
سعيدا كان يتكلم، سعيدا إلى درجة النشوة، كانت الحرب وذكراها تمثل له قمة النشوة، فأخيرا ها هو ذا يلاقي عدوا متجسدا أمامه لأول مرة وينشب فيه أظفاره ويعلو به الصدام إلى قمة النشوة.
أقسم إنها كما صنعت مصر الحاضر ستصنع مصر المستقبل.
وكما زلزلت وجود العدو الإسرائيلي وهدت قواه، ستصنع لنا البقاء والوجود.
حيرة الكاتب
ما كان أضناه من شعور! شعورك أن أبناء بلدك وقومك يقومون بالبطولات، يموتون، ينتصرون، يعبرون، يقاتلون الشيطان العدو، وأنت وفقط بأذنك تتابع أنباء ما يفعلون. قتال؟ أنت غير مقاتل وغير قادر على القتال. حضور للمعركة؟ والمعركة قد خططت ليحضرها ويعيشها المقاتلون فقط بلا شهود عيان أو حتى شهود عدسات تصوير.
ماذا تفعل وأنت تحارب باللاسلكي، وحتى ليس كمرسل، وإنما كمستقبل سالب لا حول لك ولا قوة؟ ماذا تفعل وأنت لم تشهد ولم تعش ولم تر أعظم لحظات شعبك، لحظات أبدا لن يكررها الزمن. فالجيش جيشك الرائع قد عبر القنال إلى الأبد، واجتاح إلى الأبد بارليف، ومنذ الآن وإلى آلاف السنين لن يكون هناك ذلك العبور الرائع الآخر، أو ذاك الاجتياح العظيم؟ ماذا تفعل إذا كنت مثلي قد قضيت صباك وطفولتك وشبابك تحلم بساعة الاشتباك المروع، ثم تجيء اللحظة ويدور الاشتباك وأنت غائب، ليتك غائب، ولكنك الغائب الحاضر، المقاتل العاجز أصواتا وأمواجا، الشهيد الحي الجريح مع كل مجروح بغير دماء، المنتصر مع المنتصرين بمجرد آهة إعجاب، ولوعة فرح. ماذا تفعل؟
تكتب؟!
وما قيمة، وما معنى، وماذا يمكن للكاتب لو جند له جبريل نفسه أن يفعل؟ في عنابر الجرحى، في الطرقات، حتى في المسرح القومي، كنت أصادف بعض من حملوا على أذرعهم أو أعينهم أو سيقانهم أوسمة 6 أكتوبر، وكانوا جميعا يقولون: لماذا لا تكتب؟ أنت بعد لم تكتب. نحن ننتظر أن تكتب. لقد عشت تكتب فلماذا والآن نحيا التاريخ المهول لا تكتب؟ وأجلس أمام أوراقي وفي يدي قلمي أريد أن أكتب، لا بد أن أكتب بالقلم، أقاتل مثلما قاتلوا بالمدفع، على الورق أعبر وأجتاح مثلما عبروا الماء والرمال. اندفعوا، أفعل مثلما فعلوا. غير معقول ألا أفعل مثلما فعلوا، غير معقول أن تكون الكلمة أقل وقعا من الطلقة، ولا الجمل أقل فاعلية من الغارة. العجز أحسه، العجز يشملني، عكس الإرادة العظمى التي بها انطلقوا يتسرب وهني كالعدو، يحيل الحمى التي تجتاحني إلى كلمات؛ مجرد كلمات مثل غيرها من الكلمات، والشعور الهائل بالرغبة في التضحية وبذل الذات إلى شطرات، كأغان لها شطرات تنشدها حناجر مطربين، وراء الميكروفون يغنون، وشعراء خلف المناضد المنبسطة يشعرون. أي موقف صعب يا إلهي! أيها الإله أعاني وكيف المخرج؟
Shafi da ba'a sani ba