كان الموقف في رأيي مخيفا، والمخيف فيه أننا كنا قد حققنا لبلادنا أوضاعا وإنجازات كانت تبدو منذ سنوات قليلة جدا كالأحلام؛ كنا قد أجلينا المستعمرين عن بلادنا بلا أي قيد أو شرط، ورفضنا الأحلاف والتبعية، وخلقنا مع غيرنا كتلة عالمية ضخمة واتجاها فكريا تقدميا رائعا اسمه الحياد الإيجابي. وكنا قد واجهنا قوى الاستعمار العالمي بالنجاح، بل وأصبناه بضربات قاصمة وفي الصميم مثل تأميم القناة والمساعدة في تحرير الجزائر وتونس ومراكش واليمن والجنوب العربي المحتل ولبلادنا العربية، أصبحت القومية والوحدة حقيقة تكاد بين لحظة وأخرى أن تقع ، وفي الداخل كنا قد حققنا ثورة صناعية ضخمة ووضعنا أقدامنا على أعتاب عصر آلي حقيقي كان سيغير من وجه الحياة في مصر في سنوات قلائل تغييرا جذريا ينقلها من عصر إلى عصر. كان كل شيء ضخما رائعا عظيما، كالمعجزة، وكل هذا تحقق في سنوات قليلة وبأقل الخسائر.
ولكن ...
ليس كلاما في السياسة
في 16 سبتمبر 1970 بدأ يحدث شيء في الساحة العربية لا أعتقد أنه قد حدث قبلا في تاريخها أو سيحدث من بعد. في ذلك اليوم من شهر «أيلول» قرر الملك حسين أن يذبح خمسة وعشرين ألف فلسطيني «من رعاياه»!
والقرار دبر له في عناية بالغة، وربما ترك الملك حسين مزايدات واستفزازات بعض منظمات المقاومة الفلسطينية تعمل عملها في تهيئة الجو كي ينقسم رعاياه إلى أردنيين وفلسطينيين أعداء، وكي يحين الوقت ليبدأ المذبحة.
إن الوصف التفصيلي لهذه الجريمة المروعة لم أقرأه في صحف عربية، بل في الصحف الأجنبية التي كان لها مراسلون في عمان شاهدوا ورأوا بأعينهم ما جرى. هؤلاء الشهود «المحايدون» قرر أكثرهم أن البشاعة والوحشية التي تم بها هذا العمل لم تحدث في تاريخ البشرية إلا مرتين، مرة على يد تيمور لنك عندما أراد فتح العاصمة «هيرات» القائمة على الحدود بين الهند وإيران، فانتقى قرية صغيرة بجوار العاصمة وذبح جميع سكانها نساء وأطفالا ورجالا وشيوخا، ثم أرسل رجلا من أعيانها إلى العاصمة بعد أن فقأ عينيه ليكون الراوي الوحيد الباقي على قيد الحياة؛ يقص على سكان العاصمة ما شهده بعينيه حتى يستسلموا.
ولكن المروع لم يكن فقط ما يدور في عمان وإربد، المروع الأكثر هو ما حدث في الساحة العربية، ولا أقول الساحة العربية الرسمية؛ فقد دعا القائد الخالد إلى عقد اجتماع قمة على عجل لإيقاف المذبحة، المروع هو ما كان يحدث على الساحة الشعبية العربية، فلقد وقفنا جميعا من «المحيط الهادر» إلى «الخليج الثائر» نسمع الأخبار وبعضنا يشيح على أثرها بيده وكأن لا فائدة، وبعضنا سادر في حياته وكأن شيئا لم يكن، والبعض القليل المتحمس تائه مروع حائر لا يدري ماذا يفعل. ولن أغالي إذا قلت إننا جميعا عشنا أياما طويلة بضمائر مرهقة قد أثقلها الإحساس بالعجز.
بعد عامين فقط، وأيضا في 16 سبتمبر (أيلول الأسود) بدأ جيش «الدفاع» الإسرائيلي بنفسه مذبحة أخرى لتصفية بقايا الشعب الفلسطيني في سوريا ولبنان، أذاعت الخبر وكالات الأنباء، وبنفسها راحت إسرائيل تجاهر ودون أدنى خجل بهجومها على سوريا والأردن وتصدر البلاغ تلو البلاغ عن عمليات «التمشيط» التي تقوم بها قوات «الدفاع الإسرائيلية» وتتولى فيها قصف مخيمات اللاجئين بالقنابل والنابالم للقضاء على «الإرهابيين» أنى وأين كانوا. وأي طفل فلسطيني إرهابي في نظر إسرائيل، وأي امرأة «إرهابية» باعتبارها ستلد «إرهابيا»، وأي شيخ إرهابي لأنه لا بد أب أو جد لإرهابي.
إنما المحير حقا هو موقفنا نحن العرب، وأيضا من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، تجاه هذا الذي يحدث. ولا أقول أيضا كقيادات سياسية أو كحكومات، وإنما كشعوب عربية، إن لم تكن قد ذاقت نفس طعم المذابح مثلما حدث لنا هنا في مصر أيام غارة مصنع أبي زعبل ومذبحة الأطفال في مدرسة بحر البقر، إن لم تكن قد ذاقت فهي لا بد يوما ما ذائقة نفس الطعم.
ماذا فعلنا؟
Shafi da ba'a sani ba