كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين [الدخان: 25-28].
وكل هذه الوصايا القرآنية والنبوية في أذهان الفاتحين تجنح بهم إلى المسالمة والمؤامنة في معاملة أهلها، وتضع الروم عندهم في موضع فرعون الذي تجبر وفرق رعيته شيعا، ووجب أن يتركوا الأرض لمستضعفيها، وأن يورثها الله قوما آخرين.
وتوافق هذه المسألة خطة مثلها من أبناء البلاد توحيها إليهم أحوال كثيرة كانوا يكابدونها على الأحقاب المتوالية، وأهمها الحالة الدينية كما صارت أيام الفتح الإسلامي خاصة، وهي تلك الحالة التي أزعجت البطرق عن كرسيه، وألجأت زعيم القوم إلى مذهب في العقيدة غير مذهبه، فلم تعد الطمأنينة إلى المتعبدين لأول مرة في ثلاثة قرون إلا بإعلان الأمان لكل متعبد ورعاية لكل معبد.
ولا خلاف بين المؤرخين في منهج الدعوة الدينية في سنوات الفتح الأولى إلى أواسط أيام الدولة العباسية، فلم يقع إكراه على أحد، بل وقع ما يناقض الإكراه في رواية الكثيرين من مؤرخي العربية ومؤرخي اللغات الأجنبية، فقد أدهشهم إحجام الفاتحين عن إكراه أبناء البلاد على الدخول في ملتهم، حتى التمسوا تأويل ذلك بأنهم كانوا يشفقون من نقص الجزية وإقفار خزانة الحكومة وانقطاع أرزاق الجند والعمال، وهو تأويل مخطئ كما سنرى في باب الأحوال الإدارية وتقسيم الأموال بين الجزية والخراج والزكاة، ولكنه مهما يكن من خطئه صحيح في الإبانة عن الواقع في مسألة الدعوة الدينية، فإذا بلغ من إحجام الحاكمين عن إكراه الرعية على التدين بدينهم أن يعلل المؤرخون ذلك بنفورهم من فقدان الجزية، فقد صح على الأقل أنهم أحجموا عن الإكراه ولم يقسروا أحدا على الخروج من دينه.
غير أن الحالة الدينية كما وصفناها، تفسر الواقع كما تستدعيه تلك الحالة، وكما ورد في التواريخ القبطية كتاريخ يوحنا النخيوي المشهور، فهو يقول: إن المسيحيين الملكيين أسرعوا إلى الدخول في الإسلام؛ لأنهم كرهوا أن يثوبوا في أحكامهم ومعاملات زواجهم وطلاقهم إلى الكنيسة التي يعادونها وتعاديهم، ويشبه الطائفة الملكية أناس في حكمها كالطائفة النسطورية والآرية، ومن يقول بالمشيئة الواحدة ولا يقول بالطبيعة الواحدة، كما يقول القبط، ولا بالطبيعتين على النحو الذي يدين به الملكيون.
وقد حدث في هذه الفترة وما قبلها بقليل أن الطائفة المارونية هجرت أرضها جملة واحدة، وانتقلت إلى جبال لبنان كراهة الخضوع لليعقوبيين، ولعلها لو اضطرت إلى البقاء حيث كانت لدانت بالإسلام ولم تذعن لمن حاربتهم وحاربوها في المعتقدات والأحكام عشرات السنين.
فالذين أسلموا بعد الفتح إنما أسلموا طوعا غير مكرهين على ترك مذهب ولا نحلة، وهم على رواية يوحنا النخيوي طائفة الملكيين الخلقيدونيين ومن يشبهها من الطوائف التي لا تقول بالطبيعة الواحدة! ويضاف إليهم أناس من الذين فهموا من انتصار المسلمين على الفرس والروم أنه آية إلهية وبرهان من السماء على صحة الدين وسلامة الدعوة، ويضاف إليهم أناس ممن هان عليهم أمر التدين في محنة الشقاق ومحنة الأخلاق، فلم يبالوا على أي دين أصبحوا بعد الشك والريبة، ثم فضلوا الدين الذي يعتقده ولاة الأمر وحكام البلاد! ولا تفسير للحالة الدينية أيام الفتح أصح من هذا التفسير.
الفصل الثامن
الحالة الإدارية والسياسية
عرفت مصر التقسيمات الإدارية من أيام الأسر الأولى، وعد سترابون ستة وثلاثين من هذه الأقسام التي نسميها اليوم بالمديرية أو المحافظة، وعرفها اليونان باسم النوم
Shafi da ba'a sani ba