ووضح للإمبراطور الروماني أن هذا «العناد» من جانب المصريين - كما سماه - يخفي وراءه شيئا غير مجرد الخلاف على العقائد اللاهوتية، والواقع أنه كان لاهوتيا قوميا بغير مراء، وأن تهافت المصريين على الرهبانية نفسها لم يكن خلوا من الاحتجاج على المظالم الرومانية، وقد عبر عنه أثناسيوس هذا التعبير حيث قال في كتابه «حياة القديس أنطون»
Vita Antoniou : «إن رهبان الصحراء كانوا ينشدون المزامير، ويحبون المطالعة، ويصومون ويصلون، ويفرحون بالرجاء في المصير، ويعملون على إسداء الإحسان ويحب بعضهم بعضا ... حيث لا يقيم بينهم معتد ولا معتدى عليه، ولا يقترب منهم جابي الضرائب، ولا يبصرون هنالك غير جمهرة من النساك على مقصد واحد، وهو التطلع إلى الفضيلة.»
لقد كان هرقل مشغولا بحرب الفرس وقبائل البرابرة في أوائل أيامه على العرش، فلما انتصر على الفرس وهادن القبائل حول عاصمته فرغ «للمعاندين المنشقين»، وغره النصر، فأمعن في طغيانه وغلا في مطالب الطاعة من رعاياه، وخيل إليه أن استقرار الأمر له مرهون بتوحيد المذاهب في المملكة، وأن هؤلاء المعاندين المنشقين يهددونه ويجترئون عليه، فانقسمت الدولة عنده إلى «ملكيين» وخارجين على الملك، وتبادل الفريقان التهم العنيفة، فكانت كلمة الوثني الخائن أيسر وصف لمن يخالفون الإمبراطور وشيعته، وكانت كلمة الخلقيدوني مرادفة لوصف الكفر والغشم في نظر أبناء البلاد! ولم تكن المسألة يومئذ مسألة مذاهب وطوائف في ديانة جامعة، بل كانت مسألة مسيحية أو لا مسيحية؛ لأن مهمة المجامع في القرون الأولى إنما كانت تقرير العقيدة التي يدين بها المؤمن وينكرها غير المؤمن، ثم جاء الاضطهاد فأوغر الصدور، وخرج به الفريقان من الخلاف إلى العداء، وآمن كل متدين مخلص في عقيدته أن مخالفيه قد استحقوا الغضب والنقمة من الله!
ولم ينحصر النزاع بين الملكيين وجملة المصريين، بل ظهرت معه الخلافات بين الآريين والنسطوريين والأوطاخيين والشيوبسقيين أتباع بطرس القصار، وغيرهم من أصحاب النحل المتقاربة أو المتباعدة في تفسير اللاهوت والناسوت، وغلب الضجر على الكثيرين فاعتزلوا المذاهب، وساورتهم الشكوك، وانهارت الأخلاق، وساءت القدوة بعلية الناس ورؤسائهم، فمن لم يكن ناقما متوقعا للغضب السماوي فهو متهاون غير حافل بما تصير إليه الأمور.
وقد صور لنا أبناء ذلك العصر شعورهم في أقوالهم وأخبارهم فاتفقوا على شعور واحد مع اختلافهم في كل ما عداه، وذلك هو شعورهم بالغضب الإلهي وانتظار الجزاء العادل من الله.
فلما تقدم المسلمون لحرب الدولة الرومانية، شاع في المشرق كله أن هزيمتها حق، وأن غلبة المسلمين عليها عدل، وأن القضاء الإلهي ينفذ في مستحقيه بما قدمت أيديهم من ظلم ومعصية.
وربما نفر الخاضعون للدولة الرومانية من هذا القضاء الذي حل بها، لو أنه أصابهم كما أصابهم، وعرضهم للشر الذي كانوا يأمنونه في ظلها، ولكنهم وجدوا الفاتحين يؤمنونهم من حيث خافوا، ويبيحون لهم ما لم يكن مباحا لهم في أيام الدولة الدائلة، فمن التصدي لعدل الله في قضائه أن ينصروها لتخذلهم وأن يدافعوا عنها ليدفعوا عنها غضب الله.
كانت مدينة غزة أول المدن الكبرى التي استولى عليها العرب من أرض فلسطين، وقالت مجلة المشرق اليسوعية في سنتها الثانية: «إنه كان يسكن وقتئذ في جنوب غزة قوم من قبائل العرب المتنصرين، وكان قد أصابهم من قبل ولاة الروم عسف وجور في المعاملات فالتجئوا إلى عساكر المسلمين، ودعوهم إلى فلسطين، فلبوا دعوتهم وزحفوا على غزة في اليوم الرابع من شهر شباط لعام 634، وظفروا بجيش الروم وفتحوا المدينة ... وبعد أيام قليلة أتموا فتح بقية مدن فلسطين.»
قال ماير
Meyer
Shafi da ba'a sani ba