لكن الواقع أن الدولة الرومانية لم تكن لها ذمة تخان في البلاد المصرية من الوجهة الدينية، أو الوجهة العملية الواقعية.
فمن الوجهة الشرعية هي دولة أجنبية غاصبة، تعتدي على الأرواح والأموال، وتستنزف ثروة البلاد في الضرائب والإتاوات، وتحرمها الغلات والثمرات التي هي أحوج إليها في أيام الشح والغلاء، وتقحمها في منازعاتها قبل انقسامها إلى دولة شرقية ودولة غربية، وبعد انقسامها إلى دولتين بغير استقرار وبغير انقطاع، وقد ساعدها المصريون على طرد الفرس، وساعدوا هرقل في ثورته على خصمه فوقاس حتى قهره واستولى على العرش بعده، فمن قوة مصر وإفريقية الشمالية تجمعت قوة هرقل التي انتصر بها على خصمه، ولكنه لم يلبث أن اطمأن إلى مكانه حتى جزى المصريين على معاونتهم شر الجزاء، فلم يكن من حقه عليهم أن يحاربوا له حربه، ويمسكوا له سلطانه وهو يشارف الزوال.
ومن الوجهة الدينية لم تكن على مذهب أهل البلاد، ولم تكن سمحة معهم فيما يختارونه لعقيدتهم، وكان النزاع الديني بين مصر والدولة الحاكمة على أشده وأعنفه عند قدوم عمرو بن العاص.
وقد قال ميخائيل السوري في تاريخه: إن «المنتقم الجبار» أتى بأبناء إسماعيل من الصحراء ليخرجوا الأمم من ربقة الروم والرومان.
ومن وجهة الواقع لم تكن دولة الروم قادرة على مهمة الحكومة الأولى، وهي صد الغارات عنها وحفظ الأمن فيها. وكان من عملها ما يخل بالأمن ويغل الأيدي عن الدفاع؛ لأنها نزعت سلاح المصريين وقسمت القيادة العسكرية أقساما بين الرؤساء الرومانيين، وتركت للجنة الوطنيين أن يدفعوا غارات اللصوص بسلاحهم، فتعرضت للسطو من ناحية الصحراء ومن ناحية الجنوب، وما بقي للمصريين من جند مسلح، فإنما كان من قبيل الشرطة الذين تأمنهم الدولة الحاكمة؛ لأنهم لا يستطيعون إجلاءها ولا تأمنهم عصابات اللصوص؛ لأنها تتسلح بمثل سلاحهم ويزيد عددها على عددهم في بعض الأطراف، وقد كان قائد ليبيا الروماني على مقربة من المعارك الفاصلة بين العرب والدولة الرومانية، فلم يتقدم للاشتراك فيها؛ لأنها لم تترك في نفس أحد من جندها غيرة عليها؛ ولأنه لا يخلي مكانه إلا على خطر من العصابات. •••
وأيا كان تفصيل الموقف من جهة السيادة الرومانية على البلاد فإنها لم تكن سيادة ملزمة لأهلها بذمة من الذمم، ولم يسلبها أبناء مصر شيئا كانت قادرة عليه بقوتها الغاصبة، ومن رآها تعجز عن المقاومة في فلسطين فلن يخطر له أنها تقوى عليها في بلاده، وليست أمامه حالة «ممكنة» أسلم وأكرم من تصريف الموقف بما يقتضيه، فهو موقف ضرورة لا موضع فيه للخيانة ولا للاختيار.
وهو - بعد - موقف زعيم «أهلي» ينهض بتبعة لا حيلة له فيها، فإما أن يدع الفاتحين وشأنهم في بلاد لا يتكلم عنها أحد ولا يتفق باسمها أحد، وإما أن يتكفل بشروط الصلح التي لا يملك خيرا منها، وهذا هو قضاء الموقف بحرفه ومعناه.
والمقوقس الذي يصوره لنا الموقف حقيقة لا يسمع فيها جدل المؤرخين، ولا يزال قول التاريخ فيها أصدق وأوضح من لجاجة كتابه ومدونيه، أو نساخيه.
وهذا الموقف الذي يبسطه لنا التاريخ، يتممه الموقف كما كان يراه المقوقس في علاقته بعرش الرومان وغيره من العروش الكبيرة من حوله.
فإذا كر راجعا إلى أول أيامه، لم يكد يرى على العروش شرقا وغربا إلا جرائم الغيلة والتعهر: ثار فوقاس فقتل الإمبراطور موريس، وثار هرقل فقتل الإمبراطور فوقاس، والتاث عقل هرقل فلا يكاد يفيق من إحدى لوثاته حتى ترين عليه لوثة أخرى!
Shafi da ba'a sani ba