وأقبل خالد بن الوليد يطوي الصحراء بأمر الخليفة لنجدة القواد من إخوانه المبعوثين لحرب الشام، فألفاهم متفرقين لا يجتمعون على قيادة، واقترح عليهم ذلك الرأي الذي تواترت به الروايات، وهو تداول الإمارة بينهم، وأن تكون الإمارة إليه في اليوم الأول وقد وقع في تعيين تاريخه خلاف كبير.
قيل: إن عدة المسلمين يومئذ لم تجاوز خمسين ألفا، وارتفع الطبري بعدة جيش الروم إلى مائتين وأربعين ألفا، وهبط بها بعضهم إلى أقل من نصف هذا العدد وليس هو بقليل.
وكانت ملحمة الرجاء المستميت واليأس المستميت، وتنادى أبطال المسلمين على عهد الموت لا يرجعون إلا منتصرين، أو يقعوا مكانهم مستشهدين، وتزمل اليائسون من الروم في أماكنهم ينتظرون القتل إيثارا له على الفرار، فانجلى النهار عن هزيمة اليأس وغلبة الرجاء، واشتهرت هذه المعركة باسم معركة أجنادين على اختلاف في الموقع والتاريخ لا يعنينا هنا أن نتقصاه.
ويؤخذ من المصادر المختلفة أن عمرا قد اشترك في أكثر حروب الشام بين دمشق وفلسطين، وأن شجاعته فيها جميعا كانت كفاء دهائه وحزمه، فلم يكن يرضى لنفسه مقاما في الشجاعة دون مقام أحد من القواد أيا كان حظه من سمعة البأس والإقدام. وذكروا في وصف وقعة اليرموك أن الروم هجموا في بعض حملاتها بقضهم وقضيضهم على فريق من المسلمين، فانكشف المسلمون وولى صاحب رايتهم، فلحق به خالد بن الوليد وعمرو بن العاص يتسابقان لأخذها من يده، فأخذها عمرو واندفع بها يقاتل المتقدمين من الروم حتى كر إليه المسلمون وتجمعوا حوله، فأدبر الروم منهزمين. •••
وكأنما شاءت الأقدار للخليفة الأول - أبي بكر الصديق - أن يفارق الدنيا وقد اطمأن إلى غزوة الروم، التي اضطلع بتبعاتها المرهوبة وهو عظيم الهم بها، شديد القلق من عواقبها؛ فانتهت أيامه بهذا النصر المؤزر الذي أوشك أن يكون حاسما كل الحسم في معارك الشام وفلسطين.
وأسلم الزمام إلى خير يد تلقى إليها الأزمة من بعده، فبويع لعمر بن الخطاب بالخلافة والنصر مقبل، والحوادث مواتية لمن يتولاها بالحزم الذي هو أهله، وبالروية التي كانت قرينة لحزمه.
وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس ثقة بأبي عبيدة بن الجراح، لما سمع من تزكية النبي له، واختبر من أمانته وإيمانه في طويل الصحبة بين الرجلين العظيمين، وكان يبلغ من هذه الثقة أنه هم أن يبايعه بالخلافة في عجلة الموقف بعد وفاة النبي - عليه السلام - وأنه كان يقول وهو يجود بنفسه: «لو كان أبو عبيدة حيا لعهدت إليه.»
فلم يلبث غير قليل أن وضع هذه الثقة في موضعها، فأسند إليه القيادة العامة في حرب الروم، واعتمد على رأيه فيما يأتيه من أخبار ذلك الميدان الفسيح.
والظاهر أن توحيد القيادة كان أعون على توزيع العمل بين القواد في أنحاء الميدان كله، فاستقل عمرو بن العاص بغزوات فلسطين وما جاورها، وتم على يديه فتح سواحلها وحصار بيت المقدس ومنازلة صاحبها «أريطيون» بالجرأة تارة وبالمكيدة تارة أخرى، وكلتاهما من الصفات التي اشتهر بها عمرو بن العاص.
واتفقت المصادر على التنويه ببلاء عمرو في هذه الغزوات، فوضح منها جميعا أنه لم يكن يألو ذلك العمل الجسام الذي وكل إليه جهدا من شجاعته ولا من تدبيره، وربما جشمته موارد التدبير مخاطر لم يتجشمها في موارد القتال!
Shafi da ba'a sani ba