كل منهما بدهائه أشبه: عمرو في اقتحام الطموح المغامر، ومعاوية في تؤدة المستقر الواثق، وعمرو في دفعة العبقرية، ومعاوية في روية التدبير الطويل.
ولعل هذه الحيلة الحاضرة التي كانت تجود بها عبقرية عمرو كخاطف البرق في المآزق المطبقة، وهي التي كانت تزين له الهجوم على المورد وهو واثق من قدرته على الصدور، فكان في مجازفته شيء من الحيطة المجهولة، تبقى مجهولة حتى تعلم في الوقت المقدور، فإذا هي مسعفة لا تخيب رجاءه فيها واعتماده عليها.
ولقد أحصى العرب دهاتهم في الإسلام فعدوا أربعة هو منهم، وجعلوا لكل منهم مزية يمتاز بها في دهائه فقالوا: إن معاوية للروية وعمرو بن العاص للبديهة والمغيرة للمعضلات وزياد لكل صغيرة وكبيرة .
ونظن أن لو تكلم العرب باصطلاح هذه الأيام لقالوا: إن حيلة عمرو هي حيلة العبقرية المطاعة التي تتفتق له من حيث يعلم ولا يعلم وآيتها أنها عبقرية معبرة تلهم الخاطر السريع وتلهم التعبير عنه في كلم وجيز، وهذه هي العبقرية التي يختلط أمرها أحيانا على من يراقبونها فيتهمونها بالطياشة، ويرمونها بدفعة التهور؛ لأنهم يسلسلون أسبابهم في بطء وتثاقل، وهي تسلسل أسبابها في سرعة وخفة، فيبدو لها ما يظل خافيا عليهم ملتبسا في أعينهم، ولولا أنها واضحة عند صاحبها كل الوضوح لما تسنى له التعبير عنها بأسلوب يلائم ومضاتها في السرعة والنفاذ.
قيل لعمرو: ما العقل؟ قال: الإصابة بالظن، ومعرفة ما سيكون بما قد كان، وذلك هو الظن الذي يقول فيه القائل:
الألمعي الذي يظن بك الظن
كأن قد رأى وقد سمعا
والأصح أن يقال: إن التعريف بالعقل هنا هو التعريف بعقل عمرو نفسه؛ لأنه كان يجمع بين الفطنة والخبرة، وبين التخمين واليقين، ويأخذ من أمامه بالنظرة الخاطفة فإذا هو قد وصل، والذي أمامه لا يزال يتحرى سبيل الوصول.
قيل في غير الرواية التي قدمناها: إنه هو الذي وصف نفسه ووصف الدهاة الثلاثة معه على تلك الصفة، وأنه اجتمع مع معاوية بن أبي سفيان مرة فقال له معاوية: من الناس؟ فقال: أنا وأنت والمغيرة بن شعبة وزياد، قال معاوية: كيف ذلك؟ قال: أما أنت فللتأني، وأما أنا فللبديهة، وأما المغيرة فللمعضلات، وأما زياد فللصغير والكبير ... قال معاوية: وأما ذانك فقد غابا، فهات بديهتك يا عمرو! قال: أوتريد ذلك؟ فأجابه نعم، فسأله أن يخرج من عنده فأخرجهم، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، أسارك، فأدنى معاوية رأسه منه، فقال عمرو: هذا من ذاك! من معنا في البيت حتى أسارك؟
وتصح هذه الواقعة أو لا تصح فهما يستويان، إذ الغرض الذي ترمي إلى إثباته صحيح، وهو أن تفكير عمرو تفكير بديهة حاضرة، وأن تفكير معاوية تفكير روية بطيئة، ومرجع ذلك كما قدمنا إلى سببين: أحدهما أصيل والآخر عارض، فالسبب الأصيل أن عمرا يصدر عن وحي العبقرية، وأن معاوية صاحب عقل من العقول الوسطى التي أفادتها المرانة وتمثلت أمامها قدرة الآباء، كأنها السجل المحفوظ الذي ينقل عنه نقل المحاكاة، والسبب العارض أن عمرا مضطر إلى الوثوب والاقتحام؛ لأنه لن يفتح له باب بغير اقتحام، أما معاوية ففي موضعه وانتظار ساعته على هينة ووثوق، فإن وصل فذاك وإن لم يصل فالذي في يده يغنيه، والعجلة لا تغني عنه ولا تنفعه كما تنفعه الأناة. •••
Shafi da ba'a sani ba