Duniyar Hane-hane da Iyakoki
عالم السدود والقيود
Nau'ikan
كل شيء يمكن اقتضابه إلا أن ينطلق الإنسان بوجه نصفه محلوق ونصفه غير محلوق، فغالبت غيظي وضحكي المكظوم من هذا الغيظ، واتخذت كل ما يسعني اتخاذه من هيئة الجد والاهتمام وقلت: إنني لا أستطيع أن أصبر فوق ما صبرت، فاكتف بما صنعت واقنع بما أبدعت، واجعل همك أن تتركني بعد دقائق قليلة على حالة تصلح لمقابلة الناس، وأنا أتمم البقية غدا فسيكون عندي متسع للإتقان والإحفاء.
فاختلج كالمذعور وصاح بي: عيب يا أستاذ، ماذا يقولون عنا إذا شهدوا هذه «اللكلكة» وهذه العجلة بغير عناية؟ أيقولون إننا لا نقدر الأستاذ قدره، أم يقولون إننا صبيان في هذه الصناعة؟
وفطنت لما يدور بخاطره وما يمني به نفسه من ذلك الإعلان المأمول، فأحببت أن أفجعه بعض ما فجعني، وقلت له وكأنني أطمئنه وأهدئ روعه: لا تشغل بالك بهذا يا فلان! إنني لن أبوح لأحد باسمك! فعجل ما استطعت وأرحني أراحك الله!
فارتعب الرجل وخيل إلي أنه يوشك أن يدق صدره ويلطم خديه، وبدر على لسانه ما خبأ في جنانه، فصاح قائلا: ماذا يا أستاذ؟ أتحرمني هذا الشرف، وأنا أنازع رصفائي عليه منذ أيام؟ يا ضيعة المسعى ويا خيبة الرجاء؟ أتكتم اسمي كأنني أسأت وقصرت وأنا أقطع يدي وآتي بغاية ما عندي لأبلغ اليوم قصارى الإحسان والإتقان؟ ... لا لا ... يا أستاذ ... كلها نصف ساعة وينتهي كل شيء على ما يرام، ولا عليك من اقتراب موعد الإغلاق فإن الحراس لن يضنوا بفتح الباب لي إكراما لك، ولا سيما في عشية الوداع!
وكأنما كان هذا المنكود ملهما أن يثير قلقي ويذكرني ما أحذر وأتقي، فإن إشارته إلى «موعد الإغلاق» عصفت بالبقية الباقية من صبري فألقيت بالمنديل الذي ناطه بعنقي وهممت بالخروج إلى فناء السجن، فلم يثنني عن إنفاذ عزمي إلا أن الخروج على هذه الصورة يجمع حولي الحراس والموظفين، إن بقي أحد منهم إلى تلك الساعة، فلا يتيسر لي أن أتصل بمن أريد.
أشهد أنني شعرت بغبطة الإفراج كلها ساعة أفلت من يد ذلك الحلاق «راجي عفو الخلاق» لا عفا الله عنه، فإن حركة اليأس التي اندفعت إليها في غير عمد ولا روية قد أكرهته على قبول «التضحية» بفنه وإتقانه والرجاء في شهرته وعرفان قدره، فاستسلم للعجلة والندامة معا وانقلب إلى إبداء براعة السرعة وحذاقة الهرولة بعد براعة التؤدة وحذاقة الاستقصاء والأناة، وتبعني بعد أن تركته وهو يستحلفني ألا أنساه، وأنا أقسم له أنني لن أنساه وإن أردت نسيانه، ثم انتهيت إلى فناء السجن وقد تخلف فيه بعض الموظفين عمدا إلى ما بعد موعد الانصراف؛ لأنهم قد علموا من الحراس بما أنبأني به المأمور فانتظروني ريثما أخرج من الحجرة لعلي أفضي إليهم بنبأ أو رسالة، وقد تمهدت السبيل في اللحظة الأخيرة وخلا الجو للمقابلة والكلام، فأسررت إليهم بما عندي وعلمت بعد ذلك أنهم أدوا الرسالة في أمان، بل في إفراط من الأمان، لأنني علمت أيضا بعد ذلك أن أناسا من هؤلاء كان معهودا إليهم أن يتلقوا رسائلي الشفوية وينقلوها إلى مرجعين لا إلى مرجع واحد، وأنهم كانوا يوقعون بمن يخلصون في نقل رسائلي مخاطرين مستهدفين للغضب والعقاب، ليستأثروا وحدهم بهذا الواجب المشكور المأجور.
بت تلك الليلة كما أبيت كل ليلة، ونمت كما أنام كل ليلة ، وأصبح الصباح فلم أكد أفرغ من تناول الإفطار حتى وافاني الضابط في الحجرة يسألني هل أنا على استعداد؟ فقلت: على أتم الاستعداد إذا شئت أن أفارقكم وأنا بملابس البيت، أما إذا كرهتم ذلك فليس بيني وبين الاستعداد التام إلا خمس دقائق، ولاح عليه أن ينتظر هذه الدقائق وهو مشفق من إغضاب رؤسائه؛ لأنني لم ألبث في الحجرة الملاصقة لحجرة المأمور إلا دقائق معدودات تسلمت فيها ودائعي وانتقلنا بعدها مهرولين إلى سيارة مقفلة داخل السجن على أهبة المسير، فما هو إلا أن استقررنا بها حتى فتحت لها الأبواب وطارت إلى الميدان، فإلى شارع محمد علي وهي لا تلوي على شيء، وما زالت تعدو بهذه السرعة حتى بلغت سجن الاستئناف، وأسلمتني إسلاما جديدا إلى مأموره، فنقلني نقلا جديدا إلى حجرة خالية، واستنزلني بعدها إلى الفناء في ساعة الرياضة، وكانت نحو العاشرة، ولا يزال باقيا على موعد الإفراج عند الظهر ساعتان.
على أنني لم ألبث ربع ساعة في هذه الرياضة التي لا معنى لها في يوم الإفراج غير التزام القواعد والأصول، وإذا بكبير من موظفي السجون يقبل على عجل، ويسلمني ودائعي مرة أخرى، ويهنئني «بالفرج» ويتركني في كفالة ضابط يصاحبه رجل عملاق من رجال الشحنة الذين يعدونهم لأعمال العنف والتهديد، ويمضي الموظف الكبير لطيته، وأمضي أنا والضابط والعملاق إلى حجرات الموظفين بمحافظة العاصمة من طريق خلفية، ثم إلى مركبة تهرب بنا إلى منزلي بمصر الجديدة من ناحية شارع فاروق.
في أيام المحاكمة كانت الجلسات تبدأ الساعة العاشرة أو الحادية عشرة، وكانوا يحضرونني مع ذلك في إبان الشتاء القارس قبل الساعة الثامنة، وقبل أن يأذنوا لأحد بالدخول إلى قاعة الجلسة، وقد فهمت سر العناية بهذا التبكير، لأن النيابة كرهت أن أدخل القاعة وهي مزدحمة فيقف الحاضرون تبجيلا لهذا «المتهم» الذي يراد له الهوان، كما فعلوا في الجلسة الأولى.
وفي يوم الإفراج فهمت سر العناية بهذا التبكير وهو اتخاذ الحيطة للمظاهرات وزحام الاستطلاع.
Shafi da ba'a sani ba