Duniyar Hane-hane da Iyakoki
عالم السدود والقيود
Nau'ikan
وفي اليوم التالي لدخولي السجن أبلغت أن المصلحة ترخص لي في شراء الصحف التي أريدها على حسابي، فتعبنا جدا في إحضار صحف المساء قبل الغروب وإغلاق الحجرات - وهي توزع في ميدان القلعة نحو الساعة الرابعة - لأن البائع الخبيث علم أن هذه النسخ «مضمونة البيع» فالأولى به إذن أن يبدأ ببيع النسخ «غير المضمونة»! ولم يشأ من أجل هذا أن يحضر إلى السجن وفي ضوء النهار بقية، وأصر على ذلك مع تنبيهه مرة بعد أخرى، وإن كان هذا لا يمنعه أن يلقاني بالدعاء والابتهال كلما خرجت من السجن، وكلما عدت إليه في طريق التحقيق والمحاكمة!
وربما علم بعض حضرات القراء أنني شرعت في أيام سجني أتعلم اللغة الفرنسية، وهي مصادفة من المصادفات أيضا لم تكن تجول في نيتي عندما دخلت السجن واخترت كتب القراءة التي تقدمت الإشارة إليها، وإنما فكرت في ذلك على أثر تحية وجيزة لقيتها من رجل إيطالي مهاجر وضعوه في الحبس ريثما يتثبتون من «جنسيته» في الوكالة الإيطالية، فقد اقترب مني هذا الرجل يوما ورفع قبعته محييا وهو يقول بالفرنسية: «يا حضرة النائب ...» ثم شفع ذلك بكلام كل ما فهمته منه يومئذ أنه قرأ أخبار قضيتي، وأنه يسره أن يراني ويبلغني تحياته، فحاولت أن أفهمه جوابي بالإنجليزية فلم يفهم إلا قليلا لا يزيد على ما فهمت منه! فسألت نفسي: وما بالي لا أتعلم الفرنسية في هذه الفرصة؟ أمامي الآن نحو خمسة أشهر وهي مدة كافية للإلمام بالمبادئ، ولم يكن وقت التحقيق صالحا للشروع في هذا البرنامج؛ لأنه وقت غير محدود، فلنبدأ الآن فقد عرفنا بعد صدور الحكم بالحبس البسيط مدى ذلك الوقت المحدود. •••
وأنت أيها القارئ - وقاك الله - لا تعلم كما علمت أنا في السجن أن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول «قلم» إلى حجرة سجين بإذن من مصلحة السجون، فإن الترخيص للسجين بحمل القلم يقتضيه كما قيل لي أن يكتب عريضة لإدارة السجن، وأن ترفع هذه العريضة إلى مدير المصلحة، وأن ترفع بعد ذلك إلى كل من وزير الداخلية ووزير الحقانية، وهناك يصدر الأمر بالرفض أو القبول إذا شملته رعاية خاصة، والأرجح أن يرفض لغير سبب إلا أن الرفض مباح للرئيس، وإنه في معظم الأحيان شرط من شروط الرئاسة.
ولم كل هذا العناء؟
نعم إن القلم ضروري لتعليم الأسطر كما تعودت في دراساتي ومطالعاتي، ثم تدوين الكلمات التي تراجع وتحفظ، ولكني استعضت منه بالظفر أحز به العلامة في الهامش وفي خلال السطور، وبثني الصفحات في مواضع المراجعة والإعادة، واستغنيت عن كتابة العرائض التي يقول فيها جبرائيل لميكائيل وميكائيل لإسرافيل وإسرافيل لعزرائيل، ثم لا ينتهي بعد ذلك إلى كثير ولا قليل.
ومن طرائف المقترحات التي سمعتها وأنا أبدأ دروس الفرنسية الأولى أن أدع هذه اللغة وأعد نفسي - بدرس الفقه والشريعة والتصوف - لأن أكون إماما واعظا في الأقطار الإسلامية! وأن أفطن للحكمة الإلهية التي قيضت لي محنة السجن، كما فطن لها صاحب الاقتراح الملهم بظهر الغيب.
وجعل صاحبي - أعني صاحب الاقتراح - يسأل ثم يجيب نفسه: هل تستحق أنت بلاء السجن؟ لا ولا ريب!
إذن لا يظلم ربك أحدا! وما أراد ربك بسجنك إلا نفعك ونفع المسلمين بك، وأن لا تكون غاية سعيك خدمة الوطنية المصرية دون الجامعة الإسلامية، فدع الفرنسية واقرأ في الأشهر الباقية كتب التفسير وأصول الدين، وتجرد لما جردك له الله، وثق أنك هنا لأمر عظيم.
وهكذا كان يحاورني من حين إلى حين رسول تلك البشارة المغموطة، والهداية التي تخلق الهداة على الرغم منهم! ورسولنا هذا هو هندي متورع محبوس في قسم الحمايات لتهمة اختلاس في تجارة كبيرة ينكرها أشد الإنكار، ويزعم أن عداوته للحكومة في الحركة الهندية هي علة تلفيق التهمة عليه، وكان لا ينقطع عن كتب التفسير والأحاديث يقرؤها بالعربية فيفهمها بعض الفهم، ولكنه يتكلم الإنجليزية إذا أراد التبسط في الحديث.
وفارق الرجل السجن وفارق مصر وهو بغصة المحسور على ذلك الإمام الذي هو واثق أنه إمام منتظر، وواثق كذلك أنه قد ضيع بيديه الإمامة التي أعده لها القدر، وما أعجب الجمع بين الثقتين!
Shafi da ba'a sani ba