وإذا الفيلسوف الشاب يذكر بدء قصته، وينتهي إلى هذا الحديث الطريف الغريب الذي سمعه من «بحيرى» حين آذنت شمس الأمس بالغروب، فأذهله عن نفسه، وأرقه بقية ليله، وأزعجه عن الدير وعن صديقه الشيخ، كما أزعجه حديث ذلك الشيخ منذ حين عن صديقه وأهله وعن مدينته التي استقبل فيها الحياة وعرف فيها لذات الشباب.
وقد كان هذا كله خليقا أن يدفع «كلكراتيس» إلى بعض الحديث؛ فإن هذه العواطف المضطربة والذكريات القوية المختلفة قلما ترضى بالكتمان أو تطمئن إلى السكوت. ولكن الفتى أغرق في صمت غامض عميق، ظاهره استقرار النفس وهدوء البال، ومن ورائه صراع عنيف، بين قلب يشرق فيه نور اليقين فيملؤه رجاء وأملا، وعقل تكتنفه ظلمة الشك فتدفعه إلى القنوط واليأس دفعا. فما زال الفتى بعد هذا الذي اختلف عليه من أطوار الحياة، وبعد ما قرأ في الكتب وما سمع من صديقه الشيخ، وبعد هذا الحديث الطريف الذي سمعه من «بحيرى» حين انحدرت الشمس إلى مستقرها الغربي أمس، ما زال الفتى بعد هذا كله، وبرغم هذا كله، كما كان حائرا مضطربا، موله النفس يكاد يمزقه الصراع بين قلبه وعقله تمزيقا. قد زهد في آلهته القدماء منذ عهد بعيد، وتبين له أن لم يكن يخلص لهم الدين حين كان يعبدهم مع صاحبيه إذا جنهم الليل في قصر الحاكم، وإنما كان يتخذ عبادتهم وسيلة إلى إرضاء نفسه، وقضاء مآربه، وتحقيق لذاته المادية التي كانت تأتيه من اللهو والعبث، وتحقيق لذة معنوية أخرى كانت تأتيه من هذا الامتياز الذي كان يخرجه عما ألف الناس، ويمكنه من عصيان قيصر، والمخالفة على أمر السلطان.
وهو قد نظر إلى دين المسيح فأطال النظر، وفكر فأطال التفكير، ولكنه أعرض عنه في أول الأمر أشد الإعراض؛ لأن القانون كان يفرضه، ولأن السلطان كان يأخذ الناس به أخذا، ويبطش بالراغبين عنه والملحدين فيه. وما ينبغي للدين أن يكره الناس عليه إكراها، وأن تفرضه القوة القاهرة على النفوس فرضا، وإنما هو ينبوع رحمة وحنان يجب أن تصبو إليه عن رضا، وتهوى إليه القلوب عن محبة وشوق.
ثم حدثه الراهب الشيخ بما حدثه به من المعجزات التي يقص الإنجيل أنباءها، وتجتمع قلوب الناس على الإيمان بها والإكبار لها، ومن هذه البشائر التي رأى أولها في رحلته تلك، وما زالت تتواتر ويقفو بعضها إثر بعض، حتى كان ما سمعه أمس من رفيقه هذا الذي يسايره مغرقا مثله في صمت عميق. سمع حديث هذه البشائر، وتلك المعجزات، فمال إليها قلبه، واستراح ضميره! ولكن عقله ما زال لها منكرا، وعنها مزورا؛ لأنه عقل فيلسوف، قد نشأ على حكمة اليونان ومنطقهم، ولم يتعود أن يطمئن إلى ما يخرج عما لهذه الحكمة والمنطق من قانون.
كان هذا كله حديث نفس الفتى منذ ارتفع الضحى، وثقلت عليه حرارة الشمس. وكان يجد في هذا الحديث عناء شديدا، وهما ثقيلا! فهو لم يتحدث به إلى نفسه مرة ولا مرتين، وإنما كان يتحدث به إليها ويسمعه منها، مصبحا وممسيا، مضطربا في الأرض ومطمئنا في مضجعه. فلما طال عليه الجهد وبرح به الألم، تكلم، لا راغبا في الكلام ولا منتظرا منه دواء لدائه أو شفاء لعلته، ولكن ليخرج نفسه من طور إلى طور، وليشغلها عن هذا الصراع العنيف الأليم بين قلبه الذي يريد أن يطمئن، وعقله الذي لا يريد، أو لا يستطيع، أن يتحول عن الشك.
قال «كلكراتيس» لرفيقه بحيرى: أرأيت لو أني حدثتك بما قصصت علينا من أنباء هذا الصبي العربي أكنت تصدقني أو تطمئن إلي؟
قال «بحيرى»: فإن الأمر مختلف أشد الاختلاف.
قال «كلكراتيس»: وما ذاك؟
قال «بحيرى»: فإني لا أصدق الناس جميعا، ولا أكذب الناس جميعا. وأنا آمن لمن عهدي به الأمانة والصدق، وأرتاب فيمن عهدي به الخيانة والمين. وللحق بعد آيات تدل عليه، وعلامات تهدي إليه. ونحن لم نبتكر أمر هذا الصبي العربي ابتكارا، ولم نخترعه من عند أنفسنا، وإنما حفظته الكتب، وتحدثت به النبوات، وتناقله الصالحون الصادقون من أحبارنا ورهباننا، يورثه بعضهم بعضا، ويعهد بانتظاره بعضهم إلى بعض، ويتواصون بترقبه واستقصاء أنبائه؛ حتى إذا بدرت بوادره، وظهرت بشائره، أقبلوا إليه فمنحوه ما يملكون من نصر وتأييد. ولقد أقبلت إلى هذا الدير الذي فصلنا عنه منذ حين، وإني لأنتظر من هذا الأمر ما أنتظر، وأرقب من أخباره ما أرقب. فما هي إلا أن يقبل صديقنا «كلينيكوس» فيقص علينا بدء حديثه، ونعلم منه مثل ما علمت، حتى تشيع في قلبي ثقة قوية بأن لهذا الحديث شأنا، فأطير على هذا الدير إلى صومعتي تلك في طرف من أطراف الشام. وما أكاد أستقر فيها حتى تتواتر إلي الأنباء، وتتوالى إلي الأعاجيب، ثم ينتهي الأمر بي هذا العام إلى ما علمت. وما أدعوك إلى تصديق، وما أردك عن تكذيب، وما أفرض عليك شيئا، وما أحظر عليك شيئا، ولكني رأيت فآمنت، وسمعت فصدقت، ثم حدثت بما رأيت وما سمعت رجلا من أهل العلم فآمن وصدق، وسأحدث من أعرف من أهل العلم، وما أرى إلا أنهم سيؤمنون ويصدقون، وينتظرون كما أنتظر أن تظهر هذه المعجزة التي لا تدع سبيلا إلى الشك، ولا طريقا إلى الارتياب.
قال «كلكراتيس» في صوت هادئ حزين، ولكن فيه نغمة الحرص على المعرفة، والشوق إلى اليقين، والعجز مع ذلك عن بلوغ ما يريد: إن قلبي ليؤمن لك، ولكن عقلي يأبى عليك.
Shafi da ba'a sani ba