قال الفيلسوف الفتى: نعم!
قال الراهب الشيخ: فماذا ترى؟ وماذا تقول؟
قال الفيلسوف الفتى: فإني أستأذنك وأستأذن هذا الأخ الكريم في أن أترك هذا الدير إذا تركه، وفي أن أعيش معه في صومعته؛ لأنتظر معه أنباء الصحراء؛ فإن أنباء الصحراء هذه هي التي ستنجيني من الشك، وتؤمنني من الخوف، وتدنيني من اليقين.
9
قال بحيرى وهو يبتسم: اسبقني أيها الأخ الكريم إلى الصومعة إن شئت، فأقم فيها ما أحببت، وانتظرني ما وسعك الانتظار! فقد أعود إليها وقد لا أعود.
قال الراهب الشيخ: ما أفهم عنك منذ الآن يا «بحيرى»! أصادف أنت عن الصومعة، وصارف أنت نفسك عن أنباء الصحراء بعد أن انتهت إليك تباشيرها؟ وما أحسب إلا أنها ستتواتر، وسيتبع بعضها بعضا في غير انقطاع، حتى يبلغك النبأ العظيم، إن امتدت بك الحياة إلى أن يأتي النبأ العظيم.
قال «بحيرى»: إني لأحمق إن أقمت في هذه الصومعة أنتظر الأنباء في طرف من أطراف الصحراء، وأنا أعلم أين مستقر هذه الأنباء، وأين دار الأمن والرحمة ومهبط الوحي والرسالة. ولقد همت نفسي أن أصحب الشيخ وابن أخيه إلى مكة فأقيم معهما. ولكن الله قد صرفني عن ذلك صرفا عنيفا لأمر يراد، فتردد خاطره في قلبي، ولكن لساني لم ينطلق به. ثم مضى الشيخ وابن أخيه، ونازعتني نفسي إلى أن أتبعهما وألحق بهما، ولكني صرفت عن ذلك صرفا عنيفا لأمر يراد. وما أرى إلا أن الله يريد أن يحفظ على الصحراء سرها مكتوما مستورا لا يظهرنا منه إلا على أيسره وأهونه، إلا على هذا الذي يطمعنا فيه ويشوقنا إليه، ولا يدنينا منه، ولا يبلغنا جليته. ولولا ذلك لما انعقد لساني حين هممت أن أعرض صحبتي على الشيخ. ولولا ذلك لما صرفت ركائبي إلى هذا الدير حين هممت أن أوجهها إلى جوف الصحراء.
قال الراهب الشيخ: فأنت تعلم يا بني أن الله يظهرك على هذا الأمر قبل إبانه، وتريد مع ذلك أن تمانع ما عرفت من تدبير الله!
قال «بحيرى»: الله يعصمني من أن أمانع تدبيره، وأخالف عن أمره، أو أتمرد على قضائه. ولكن الصومعة لم تصبح لي منزلا ولا مقاما، وإن لي في العراق لأربا. وإنك لتعلم أن صديقنا «نسطور» ينتظر من الأنباء هناك مثل ما كنت تنتظر أنت هنا؛ لأنه يتوقع من الأمر مثل ما تتوقع. وإني لخليق أن أسرع إليه كما أسرعت إليك، فأنبئه بمثل ما أنبأتك به. وما أدري بعد ذلك أأعود إلى الصومعة أم أمعن في أرض العرب، لعلي أقرب من مكة. فأقيم منها بحيث تبلغني الأنباء، وتنتهي إلي البشائر، في وقت أقصر من ذلك الوقت الذي كانت تبلغني فيه وأنا مقيم بهذه الصومعة في طرف من أطراف الشام. فإن شاء هذا الأخ الكريم أن يسبقني إلى الصومعة فذلك له، وإن شاء أن ينتظر عودتي إليك إن عدت ليصحبني إلى الصومعة فذلك له.
قال الفيلسوف الفتى: وإن شئت أن أصحبك إلى صديقك «نسطور»، وأن أشاطرك ما تدبر من المخاطرة والمغامرة.
Shafi da ba'a sani ba