قال الراهب: لم أفسد عليك شيئا يا بني؛ لأن أمرك كان كله فاسدا، ولأنك كنت تخدع نفسك بالآمال والأماني، وتخيل إليها أنها أكرم من نفس صديقك ومن نفوس الناس جميعا. أليست تفر برأيها وتهرب بحريتها؟! فأين هي من النفوس التي تقبل الضيم وتحتمل الذل؟! وكانت هذه الكبرياء تغريك وتطغيك، وتحملك على أن تؤله نفسك بالعبادة من دون الآلهة جميعا. فأما الآن فقد أظن أن الأمر تبين لك، وأنك ستطيل التفكير قبل أن تنحاز إلى دين قيصر مع صديقيك، أو إلى دين نفسك في ذلك المهاجر البعيد. ولكن أحب أن تعلم أن كلا الدينين باطل مهين عند العقل الذي يخيل إليك أنك تكبره كل الإكبار.
قال «أندروكليس»: كلا الدينين باطل مهين! فأنت إذا تنكر دين قيصر والمسيح؟!
قال الراهب: أنكر دين قيصر، ما في ذلك شك، ولكن دين المسيح شيء ودين قيصر شيء آخر. وما لجأت إلى الدير إلا لأفرغ من قيصر وأشباه قيصر للمسيح.
ثم سكت قليلا ثم قال: بل للمسيح ولانتظار ما سينكشف عنه الدهر بعد قليل.
قال حاكم المدينة: فسينكشف الدهر عن شيء بعد قليل إذا؟
قال الراهب: ما أشك في ذلك يا بني! فقد تحدثت به الكتب، وكان الناس يضمرون انتظاره فيما بينهم وبين أنفسهم، ثم أخذت بوادره الآن تبتدر، وجعلت الآيات تتحدث إلى من يفهم عنها بأن مقدمه قريب.
5
وارتفع الضحى من الغد، فإذا الراهب الشيخ والفيلسوف الشاب ماضيان في حديثهما الذي كانا فيه من الليل، فقد انتقلا به إلى بيت «كلكراتيس» حين همت أستار الليل أن تنجاب عن وجه النهار.
انتقلا بحديثهما دون أن يقطعاه أو ينصرفا عنه، ودون أن يشغلهما عنه انهزام الليل المظلم وانتصار الصبح المشرق، وهذا السهر المتصل الذي كان خليقا أن يعييهما ويضنيهما. ولأمر ما شغلهما هذا الحديث عن هذا كله، وعن أكثر من هذا كله: فلم يشعرا بحاجة إلى الراحة ولا بنبو عن العادة، ولا برغبة في طعام أو شراب، وإنما مضيا أمامهما في الحديث نشيطين له، مستمتعين به، كما يمضي المسافر في طريق جميلة سهلة، يملؤه النشاط وينأى به كل النأي عن الكلام والملال، وعن التقصير والقصور.
وكان الراهب الشيخ يقول لصديقه الشاب في هدوء ودعة، وفي ابتسام يوشك أن يكون ساخرا لولا أن الشيخ كان أشد وقارا وأعظم إيمانا من السخرية، كان الراهب الشيخ يقول لصديقه الشاب وادعا باسما: إنك يا بني تسرف في أمر العقل، وتحمله أكثر مما يطيق أن يحتمل، وتدفعه حيث لا ينبغي أن يدفع، فإنك لا تصدر عن العقل حين تحب وتبغض، ولا تصدر عن العقل حين تجوع وتظمأ، وإنما تصدر في ذلك كله عن غرائز قد ركبت في طبعك، وسيطرت على مزاجك. وقد يستطيع عقلك أن يفهم هذه الغرائز، وقد يستطيع أن يمسها ببعض التنظيم، وقد يعجز في كثير من الأحيان عن فهمها وتنظيمها.
Shafi da ba'a sani ba