ومع ذلك فقد مضت الأيام والأسابيع، ولم تشك آمنة في أن الأحلام لم تكذبها. وإذا فممتازة هي من النساء! يألمن ويشكون ويضقن بكل شيء، ويزهدن في كل شيء. وهي لا تألم ولا تشكو، وهي لا تضيق ولا تزهد ولا تجد ثقلا. وهي تتحدث بذلك إلى هالة وإلى سمراء وإلى فاطمة فينكرنه، ويعجبن له ويستبشرن به. على أنها لم تكن تتحدث إليهن بكل شيء. وأكبر الظن أنها كانت تشفق أشد الإشفاق - إن وصفت لهن كل ما تجد أو بعض ما تجد - أن يسخرن منها ويتهمن عقلها ويظنن بها الظنون. فقد كانت آمنة في حياة سعيدة لم تعرف مثلها: ما أحست من رضا النفس واطمئنان القلب وراحة الضمير مثل ما كانت تحس في تلك الأيام، وما ذاقت من عذوبة النوم ولا استمتعت من جمال الأحلام مثل ما كانت تذوق وتستمتع به في تلك الليالي. إن كانت لتأوي
2
إلى فراشها فيأخذها نوم هادئ رفيق، ثم تتمثل لعينيها مناظر فيها جمال وروعة وتلقى في أذنيها أصوات حلوة كأنها غناء الملائكة، وتقضي الليل كله في لذة غريبة نادرة، حتى إذا انجلى جبين الصبح أفاقت موفورة القوة شديدة النشاط، لا تجد كسلا ولا فتورا. وما هي إلا أن تستعذب آمنة أحلام الليل، فتود لو قضت وقتها كله نائمة مغرقة في هذه الأحلام. ثم تود لو لم يزرها أحد ولم يتحدث إليها أحد لتستحضر في اليقظة ما كانت تبتهج به أثناء النوم. ولكنها قرشية تعرف كيف تملك نفسها، وتضبط أهواءها، وتلقى الناس بمثل ما كانت تلقاهم به من البشر الهادئ البريء من الإسراف في الابتئاس أو الابتهاج.
وأخذت قريش تنتظر قفول العير وتستعد له، وأخذت الأسر تهيئ لاستقبال العائدين. وكانت آمنة كغيرها من نساء قريش تنتظر رجوع زوجها، وتتهيأ له سعيدة مرتين: سعيدة بمقدمه، وسعيدة بهذا النبأ الذي ستلقاه به إذا خلا إليها. ولم يكن عبد المطلب أقل قريش انتظارا للقافلة، وتحدثا عنها، وتحرقا إلى لقاء بعض من كان فيها. وأقبل البشير فأذن في مكة أن مقدم العير قريب. وخف شباب قريش يلقون العير قبل أن تبلغ الحرم. واستعد كهول قريش للقاء العير متى دخلت مكة. وازينت نساء قريش للقاء الأزواج والإخوة والأبناء. وخرج إخوة عبد الله فيمن خرج، وانتظر عبد المطلب فيمن انتظر، وازينت آمنة فيمن ازين، وأعدت فاطمة بنت عمرو طعاما غير مألوف. ولكن إخوة عبد الله كانوا أسرع من عاد من استقبال العير، ولم يعودوا مبتهجين ولا مغتبطين ولم يكد يراهم عبد المطلب حتى وقع في نفسه حزن ثقيل. ولم يكد يسألهم عبد المطلب حتى عرف أن ابنه قد مرض في الطريق، فتخلف في يثرب ليمرض عند أخواله من بني النجار. واضطرب الشيخ وبنوه بين حزنهم للمريض وحزنهم لأنفسهم. وخاف الشيخ على آمنة، وخاف أبناؤه على أمهم فاطمة. وقضى الشيخ وبنوه ساعة كانت فيها حيرة سوداء مظلمة ثقيلة الحمل. ثم ثاب إلى الشيخ حلمه، وعاد إليه بصره بالأمور وحزمه في تصريفها، فلم يفكر في نفسه، ولم يفكر في آمنة ولا فاطمة وإنما فكر في المريض، فندب أكبر بنيه ليرحل من فوره إلى يثرب، ويشهد من قرب تمريض أخيه. وأبى الشيخ أن يهم بشيء أو يفكر في شيء حتى يفصل ابنه من مكة. وما هي إلا ساعة من نهار حتى كان أكبر أبناء عبد المطلب في طريقه إلى يثرب لا يلوى على شيء. هنالك رجع الشيخ إلى نفسه، فذكر يوم الفداء، وذكر ضحوة ذلك اليوم الذي أغرى ابنه فيها بالسفر وحضه عليه، وذكر يوم الرحيل، وذكر خوفه وإشفاقه، وذكر القوى الخفية الماكرة التي كان يخافها ويشفق منها. وحاول الشيخ أن يرد إلى نفسه طمأنينتها ودعتها فلم يوفق. فينهض متثاقلا كالمأخوذ حتى دخل على سمراء. فلما رأته سمراء لم تشك في أن حادثا قد حدث، على أنها تلقته مبتهجة بلقائه في شيء من العتب والمرارة . ولكنه لم يلبث أن أنبأها بما علم وما فعل، وبأنه مشفق على الفتى، وبأنه لا يدري كيف يلقى بهذا النبأ أم الفتى وزوجه.
قالت سمراء وهي تبكي وقد ذكرت ابنها: فابدأ بنفسك فالقها بهذا النبأ كما ينبغي أن يلقاها به الشيخ الوقور، فما أحب لك هذا الجزع، وما أعرف أنه يليق بك أو يجمل منك. وما أرى أن على الفتى بأسا، وما أظن إلا أن الفتى قد اتخذ هذه العلة اليسيرة سببا إلى زيارة أخواله في يثرب والمقام عندهم قليلا. ومضت سمراء تعزي الشيخ وتهون عليه الخطب، والله يعلم ما كان الخطب عليه هينا ولا يسيرا. ومضت سمراء تعزي أم الفتى وزوجه وتهون عليهما الخطب. وقد سبقت إليهما به الأنباء.
وكانت طوالا ثقالا تلك الأيام وتلك الليالي التي قضاها آل عبد المطلب ينتظرون أنباء المريض، وكان مرا ذلك الحزن الذي كان يتجرعه الشيخ إذا أمسى، ويتجرعه إذا أصبح، ويتجرعه كلما تقدم النهار. وكانت غزارا حارة تلك الدموع التي كانت تسفحها فاطمة في غير هدوء ولا انقطاع. وكانت لاذعة محرقة تلك اللوعة التي كانت تجدها آمنة كلما خلت إلى نفسها وفكرت في زوجها. ولكن! أكانت تخلو إلى نفسها حقا؟! أكان يتاح لها أن تفكر في زوجها حقا؟! يا له من جنين هذا الذي تحمله بين أحشائها! إنه ليصرفها عن الحزن، وإنه ليوقع في قلبها عزاء حلوا، وإنه ليملأ نفسها صبرا جميلا! ومع ذلك فهذا الجنين أحق الناس بالرثاء إن حدث لمريض يثرب حدث. أليس قد يولد يتيما؟ بلى! لم يبق في ذلك شك. ولا بد من أن تؤخذ النفوس باحتماله والصبر عليه؛ فقد عاد رسول عبد المطلب ينبئ قومه بأنه قد بلغ يثرب فلم ير فيها أخاه المريض، وإنما رأى قبره في ناحية من دور بني النجار!
وجلس شباب من قريش ذات ليلة عند فاطمة بنت مر الخثعمية يسمرون، فانتهى حديثهم إلى مرض عبد الله وموته في يثرب. فلما سمعت فاطمة هذا الحديث غشيت جبينها المشرق سحابة رقيقة من حزن، وتحيرت في عينها دمعة لم تلبث فاطمة أن كفكفتها وهي تقول في صوت كأنه يأتي من بعيد: نذر وفداء، ورحلة ومرض، وموت في يثرب؛ إن للقدر في هذا الفتى من قريش لسرا!
ثم مضى القوم فيما كانوا فيه من لهو الحديث.
الفصل السادس
القضاء
Shafi da ba'a sani ba